Sunday, March 28, 2010

الجامع الوجيز في غرائب أسفار القرمتي - ٠٣

الفصل الثاني من كتابي الجامع الوجيز في غرائب أسفار القرمتي

المبحث الأول

الطريق إلى الديار المقدسة

مكة المكرمة


مقدمةٌ


مكة ، بكة، أم القرى، البيت العتيق، المسجد الحرام، الحرام، سموها ما شئتم فهي ستظل العاصمة و القبلة الروحانية الأولى و الوحيدة للمسلمين في أرجاء المعمورة، من هذه الصحراء القاحلة اصطفى الله عز وجل رسوله الكريم عليه السلام، الأُمي الذي أوحي إليه من الإله عن طريق سيدنا جربيل عليه السلام، الإسلام و سور القرآن الكريم،هنا ولدت الديانة السماوية الأخيرة ليهتدي بها من يشاء و يصد عنها من يشاء، إلى أن يظهر الله عز وجل الحق في يوم معلوم عنده.


يطاردك الخشوع إلى تحت جلدك، يتماشى مع كريات الدم الحمراء في جسمك بكميات كفيلة تجعلك تبحر مع خيالك الواسع إلى الوراء لأكثر من ١٤٣١ سنة، في هذه الأرجاء عاش الرسول عليه الصلاة و السلام، وهنا دخلها بعد صلح الحديبة، و هنا أيضا فتح مكة في السنة السابعة هجرية من دون سفك أو إراقة دماء.


لا يمكنني حتى الآن أن أصف أو أحدد العبارات السليمة و الصحيحة لتجربتي الروحانية في مكة المكرمة، أو برؤيتي للكعبة المشرفة لأول مرة في زيارتي هذه، أتخذت من بوابة الملك فهد بن عبدالعزيز دربي إلى الولوج بساحة مسجد الحرام، تركت حذائي في جوف صندوق يحمل رقم ٧٧، وهو ذاته الذي أبقي فيه أحذيتي في كل زيارة لي إلى الكعبة، مجرد الوجود في بيت الله يولد فيك شعورا بالاستغناء عن العالم الخارجي، بل إني أكاد أجزم أن قاطني مكة ليسوا على دراية بوصول أول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من أصول أفريقية، أو أن إسرائيل لا تزال تشرع في بناء مستوطناتها في القدس الشرقية العربية، أو حتى فوز إياد علاوي في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، مجرد النظر إلى الكعبة تقنعك فعلا أنها محور الكرة الأرضية.


في زيارتي هذه أو " عمرتي " أتخذت قراري في الاتباع بخطى النبي عليه الصلاة و السلام في حياته و معاشه هنا، جعلت من اللبن الصافي و التمر غذائي الوحيد طيلة الثلاث الليالي التي قضيتها، و ما أروعها.


بداية المتن:


لم أصادف خلال دخولي إلى ساحة المسجد الحرام أي خلافات بين قريش أو بني أمية أو بني هاشم حول من سيتشرف بوضع الحجر الأسود في مكانه، لم يكن لصنمي اللات و العزى أي أثر في ساحة الحرم، لم يقدم زوار الكعبة، وهي المتواجدة منذ أن رفع سيدنا إبراهيم و نجله إسماعيل قواعد الكعبة أي قرابين كما اعتادوا أن يقدموها إلى الإله، كما لم تصادفني أي معلقات أو ملاحم شعرية، أو حتى إعلان إجارة المطعم بن عدي، كل ما رأيته هو فوج هائل من البشر يطوفون الكعبة في حركة دائرية عجيبة، أتخذوا من اللون الأبيض حراما، بينما كسيت الكعبة قماشا أسودا حريريا، زخرف على أطرافه آيات من القرآن الكريم بخيوط من الذهب الخالص، أعطى إندماج اللونين الأسود و الذهبي هيبة، استطاعت أن تسرق الأفئدة و الألباب.


الكعبة كما بدت بعد صلاة الفجر

تبدأ رحلة العمرة عادة بالطواف حول الكعبة بسبعة أشواط، في كل مرة أدعو الإله بأدعية مختلفة أحملها في صدري و في كتابي، و أعلم يقينا بأن هناك ملائكة تطوف معي أعلى هذه الكعبة التي أمامي، في البيت المعمور، والذي يقع تماما فوق هذه الكعبة، يطوفه في كل يوم و ليلية سبعون ألف ملاك، لا يرجع إليه من سبق من الملائكة أن طافه، الطيور محلقة في السماء أعلى الكعبة، بإمكانك سماع أصواتها.


اشتركت مع أكثر من جماعة في الدعاء أثناء الطواف، في المرة الأولى مع الإيرانيين و الثانية مع الأتراك الذين صححت لهم بعض المفرادت اللغة العربية و كيفية نطق بعض حروفها بالشكل الصحيح، و بعض الأدعية التي أحفظها عن ظهر قلب، في ما بقيت وحيدا باقي الطواف، صليت بعدها ملاصقا لمقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، صاحب القدم العملاقة، ثم أديت أركان العمرة المتبقية من سعي و تقصير و حلاقة بتروي، حتى إنني أنتهيت من أركان العمرة في تمام الساعة الحادية عشرة مساء، إلا أنني بقيت و تطوعت بالطواف سبع مرات أخرى، و السعي أيضا سبع مرات أخرى، قبلت الحجر الأسود مرتين و لمست أطراف الكعبة من الركن اليماني.


انتهيت من أعمال التطوع في تمام الساعة الواحدة و النصف فجرا، صليت المغرب و العشاء جمع تأخير، أتممت أركان العمرة، عدت إلى فراشي، أبقاني السهاد مستيقظا حتى تسللت في الثالثة فجرا إلى ساحة الحرم مرة أخرى، إلى حجر إسماعيل، صليت فيه صلاة التهجد كاملة من دون أي مضايقات، بل يكاد أن يكون فارغا.


أذن الفجر، جلست في أول سجادة أمام المقام، أخرج عمال بيت الله " المايكروفونات "، ابتسمت لشيخ كبير في السن كان يجلس بجانبي، حاولت أن أطلب منه إن كان بإمكانه أن يحفظ لي مكاني لحين عودتي، بينت له عن رغبتي في شرب القليل من ماء زمزم،و وافق على الفور، ولكنه اشترط أن أجلب له معي القليل من الماء له أيضا و نسخة من القرآن الكريم ليتسنى له قراءة ما تيسر من السور إلى أن يعلن المؤذن القابع في غرفته المخصصة له على يسارنا.


وافقت و جلبت ما تمناه وطلبه الشيخ، شكرته على استجابته لطلبي،ابتسم و طلب مني الجلوس على يساره بدلا من يمينه، علمني خلال تلك الفترة التي تفصلنا قبل الأذان بعض قواعد التجويد في القرآن من القلقلة و أحرف المد و الإقلاب، حتى إنني رددت عليه بعض الاختصارات التي أعرفها مثل كم عسل نقص لأحرف المد، و قطب جد الأحرف المختصرة للقلقة، علمني كيفية النطق السليم، و بعض تعاليم علم الصوت للعالم الجليل ابن الهيثم، والذي ترحمنا عليه، بعدها علا صوت المؤذن معلنا آذان الفجر، صليت ركعتين بعدها، طلب حراس الكعبة مني الرجوع إلى الصفوف الخلفية، لأن السجادة التي أجلس عليها هي مخصصة للعلماء، والذي تبين أنه مخصص لعلماء المسلمين، إلا أن الشيخ طلب منهم السماح لي بالجلوس، تركوني الضباط وحدي، و جروا من معي في السجادة إلى الخلف، كتمت أنفاسي لدقائق متسائلا عن هوية الجالس بجانبي، والذي جلبت له الماء و القرآن؟، ابتسم و عرفني بنفسه، وهو أحد علماء المسلمين، و أخاه أحد أئمة الحرام، نزل الشيخ ماهر المعيقلي إلى أرض الحرم من الجهة اليمنى، يحرسه أثنين من كبار الضباط، رائد و عميد، مرتدين بدلة مختلفة تماما عن حراس الكعبة و ضباطها، أقيمت الصلاة


صليت في الصف الأول و الإمام في شمال غربي تماما، ترتيل ممتع أشعرني بخشوع لم يسبق لي أن شعرت مثله من قبل، وفاضت مدامعي عند تلاوته لسورة " ق "


بسم الله الرحمن الرحيم

ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)

صدق الله العظيم


لم أتمكن من حبس دموعي مع قوله عز وجل " يوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد"، عندها قلت لنفسي " هذا الحجي .. هذا الحجي.. “، لم يستطع العقل سوى أن يحول ذلك الموقف أمامي، أن أقف في يوم الحساب، يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون، الجميع يبحث عن المخرج و الشفاعة، وأنا بداخلي لا أعرف إن كنت على حق أم باطل طوال حياتي، و الكتاب الذي علي يميني لا يمكني إزالته أو تعديل في سيرته، ويبقى التساؤل الأبدي هل سيدخلني ربي إلى الجنة بعد رحمته، و يغفر لي ما تقدم و ما تأخر لي من ذنب؟، الآية السابقة من أكثر الآيات التي أخشاها في حياتي.


بعد أن أفرغت من صلاة الفجر، شرح لي الشيخ بعض الأمور الدينية بعد أن شاركته بإحساسي خلال رحلتي الأخيرة هذه، وسألته هل يحق لي أن أقرن لقب " عالم " إلى إسمي بمناسبة صلاتي هذه بجانبك؟ ابتسم وقال لي " ستغدوا يوما عالما في مجالك بإذن الرحمن" ، عرفته بإسمي " قرمت القرمتي " من الكويت، استفسر عن أخوالي، والذين التقيت بأبناء عمومة " الخوال "، و الذين قدموا من الخبر و الرياض معنا للقائي، قضيت أوقات ممتعة طوال يوم الخميس.


بعدها قررت الذهاب إلى الغرفة للمبيت فيها، صحيت بعدها لأداء صلاة الظهر، والحمد الله إنني تمكنت من أداء جميع صلواتي في الحرم المكي أمام المقام، على الرغم من الازدحام الشديد الذي شككني بأنني في الحج، وجدت مكانا شاغرا في الساحة.


الصلاة في الحرم المكي له مذاق متميز، البقاء بجانب الكعبة لا تجعلك شعر أبدا بالتعب من الوقوف، الركوع، أو السجود، حتى إنك تشعر بنفس غريب تأتيك، نسمات الهواء الشمالية و الجنوبية و الشرقة و الغربية كلها تضرب وجهك وقلبك معا، تشعرك بالأمان، تنسيك بالعالم الخارجي، حتى إنني لم أفتح التلفزيون أو هاتفي النقال سوى للضرورة من حين إلى آخر.


فوج من المصلين خارج الحرم المكي بعد انتهائهم من أداء صلاة الجمعة

في يوم الجمعة، بدأت صباحي منذ الساعة الثالثة فجرا لأداء صلاة الفجر، بعدها رجعت إلى غرفتي، بعدها في تمام الساعة الثامنة توجهت إلى الحرم لأجلس أمام المقام، و الذي اعتكفت فيه إلى أن أذن الظهر في تمام الساعة الثانية عشر و سبعة و عشرون دقيقة، أعتلى أمامي الإمام السديدس، والذي فاجأني، على الرغم من قدومي للعمرة ثلاثة مرات، إلا أنني لم أصادف معه صلاة الجمعة،و التي تمنيت أن يكون هو خطيبها، و فعلا حقق ربي هذه الرغبة.

جلست أستمع لخطبته التي كانت مخصصة للإعلام و الكتاب و الصحافة و أهمية دورها، وكأنه يوجه حديثه إلي، لم تفارقني الابتسامة طوال خطبته، و طوال اليوم، إلى أن وصلتني رسالة بعد أن أفرغت من صلاة العصر، و شرعت في الصلاة في حجر إسماعيل مجددا، " كدرتني "، عاودت اعتكافي في مسجد الحرام.


" طبجة "

من المواقف المضحكة في العمرة إنني تعرضت للسرقة ! نعم " إنبقت! “، لم أجد سوى طبجة واحدة من حذائي بعد صلاة الجمعة، خرجت من المسجد مرتديا " طبجة* واحدة "، احترقت رجلي من حرارة شمس الظهيرة العالية، وصلت إلى بوابة الفندق، والذي قابلني أحد " الطرارين " يطلب مني المال، وكان ردت فعلي " بالذمة .. شوف ريلي، نعال مثل الناس ما عندي، وياي تبي فلوس الله يهديك بس؟، ضحك ضحكة هيستيرية، ومضى في طريقه، على فكرة لم يكن لباسه الراقي يدل على أنه محتاج!”، " زين دامك ماخذ الطبجة أخذ الثانية شماله مخليها؟".


شعرت بالذنب بعدها نزلت بعد أن اشتريت حذاء جديد من " بن داوود "، بحثت عنه ولم أتمكن من التوصل إليه، وزعت ما خصصته من مال قبل قدومي من مكة لتوزيع من صدقاتي و صدقات الأهل و الأصدقاء، بالإضافة إلى أعمال الله يعلم بها، ويحسبها في ميزان حسناتي و حسنات الجميع بإذن الله.


أما المنظر الغريب الذي شهدته قبل رحيلي من مكة بعد أن طفت طواف الوداع، إن الجميع توقف في لحظة أشبه بالأفلام السينمائية عندما نادى المؤذن بالصلاة على الأموات يرحمنا و يرحمكم الله، الجميع بعد أن انتهت صلاة العصر أكمل طوافه، إلى أن نادى المؤذن بالجميع من تواجد في الحرم المكي الصلاة عليهم، الجميع من كان متواجد توقف فجأة عن الحركة، في لحظة بمن فيهم من كان يطوف البيت، تجمد الجميع في هذه اللحظة، و صلوا على الأموات،الجميع نال أجرا يوازي جبل أحد يوم القيامة بإذن الرَّحْمَنَ، صليت ما يقارب العشرين صلاة ميت خلال فترة إقامتي هنا.

في نهاية الرحلة و مع طواف الوداع تمنيت و دعيت أن يغفر لي ربي لما تقدم و تأخر من ذنوبي، و أن يكتب لي الحج هذا العام، إن أطال الرب من عمري، و إن شاء الله نعود إلى بيت الله خلال الشهور المقبلة.


* انتهى المبحث الأول*


*الطبجة هي فردت الحذاء أعزكم الله.

Wednesday, March 24, 2010

رسالة


إلى أقرب إنسانة من المثالية الأفلاطونية،

في دجى الليل و على ضوء قناديل القمر أخط رسالتي الخمسين، وهي أعداد المسطحات المائية التي تعرفت عليها خلال مسيرة سفري الطويلة و الموحشة طوال السنوات الماضية،.. لا أود الخوض في الافتراضيات التي يستثيرها عقلي في كل مرة أود أن أفرج عما أريد أن أبوح به إليك، بأن محاولاتي المستمرة بهذه الطريقة لن تجدي نفعا، ولكن أجزم بأن الفؤاد الضامي استطاع سماع دقات نبضك عن بعد قبل قليل.

لذا سأكون عفويا إن قلت لك إن الجوى يا آنستي عطل العقل بما فيه من علوم مكتسبة، حتى أصبحت نتيجة عملية رياضية بسيطة مثل جمع ١ + ١ باتت منطقية أن تساوي خمسة، وبهذا فإن العقل أصبح مناصرا للسفسطائيين بمقولتهم أن الفرد مقياس كل شيء، من دون أن أتيقن من حقيقة تلك الإدعاءات، وصرت أنتِ مقياسي و محوري.

عندما يأتي المساء، أكون في طريقي متوجها إلى المنزل، أتخذ الطريق ذاته الذي أسلكه يوميا، أقف في نفس الإشارات الضوئية، القريبة من الشريط الساحلي، ولكني توقفت الليلة بجانب " سنيار " من المراكب القديمة المصفوفة بمحاذاتها، وهي ذاتها التي تعشقين النظر و التمعن بها ظهر كل يوم من على نافذة مكتبك القديم، لا أعرف الأسباب التي قادتني إلى هنا، ربما فكرة الهروب من حياة المدينة الصاخبة، أو فؤادي الذي ورث تركة ثقيلة من الأفكار و الهموم أخيرا.


مجرد التواجد بين تلك المراكب تستهويني رغبات عديدة منها الإبحار بك على متن إحدى هذه المراكب، أن تستنح لي الفرصة أن أصطحبك على خطى طريق المغامرالعاشق يونس بحري*، نخرج سوية من خليجنا العربي نعبر مضيق هرمز، نصل بعدها إلى بحر العرب على أطراف اليمن السعيد، نبحر على نبضات قلب المحيط الهندي لنصل الهند إلى أن نهتدي إلى أندونيسيا وهي المحطة الأولى في خريطته، لنظهر بعدها من حيث لا يعلم الغير في برلين، تماما مثل يونس، عندما فاجئ الجميع بإجهار بصوته عبر أثير الإذاعة الألمانية "حي العرب ... هنا برلين"، بعد أن اختفى لسنوات طويلة مجهول المكان و الهوية معا.

نشهد يا آنستي طوال رحلتنا مستحدثات ميتافيزيقية لم نعهدها من قبل، في طريقنا إلى الهند تفقد الأرض فجأة جزء من توازنها توقف على إثرها حركتي المد و الجز البحريتين، ما أدت إلى خمول المسطحات المائية، والتي أصبحت ساكنة بلا ريحٌ أو رياحٌ تحرك شراع مركبنا، أثناء توقفنا نقضي أمسيتنا بمشاهدة النجوم المعلقة في كبد السماء ليظهر لنا من مشرقنا مذنب هالي لأول مرة، لينتهي به المطاف في مغربنا، نحتفظ ببعض من هذه الذكريات لتكون قصة سوف نقصها لأبنائنا، و بداخلنا نأمل أن يمد الإله عمرنا لنعيد ذكرى هذه الليلة مرة أخرى بعد مرور ٧٦ سنة على مرورها.

في الليلة التالية يقمع القمر الشمس، ليصبح المصدر الرئيسي للضوء، بعد أن كان عاكسا لأشعة الشمس لقرون طويلة، يصبح الليل أكثر نورا الذي وجد طريقه عيناك، عندها تزداد وتيرة نبضات القلب المتلهث برؤيتك، أما الشمس فهي ستنكسف غدا خجلا منك، فكيف تظهر و أنت شمسي و مصدر ضوئي ليلا؟

كل هذه الصور الخيالية و أكثر تراودني كلما مررت من هذا الطريق إلى المنزل يوميا، و كلما نظرت إلى البحر فإني أستذكر مغامرات الأدريسي، ابن بطوطة، يونس بحري، بينما أبقى منتظرا موعد مغامرتي، يسرح البصر بالبحر، متأملا أن يجد آثار لقارورة هنا أو هناك، بها رسالتك، لتبدأ معها مغامراتنا هذه.

أتعلمين يا آنستي بأني حلمت بك الليلة الماضية، أننا في برلين، فتحت الأرض خزائنها لجميع الخلق، قالت لي بأن كل ما على البشر الآن هو التفكير بالمراد ليصبح بعدها بثوان واقعا ملموسا أمامه، الثروة الفاحشة، القصور الفارهة و حتى الجواري و حور العين، حتى إنني أعتقدت بأني بلغت في الجنة، ولكني لم أطلب سوى أن تكونين هنا بجانبي، أقص عليك مغامراتي الحياتية، محاولاتي الشعرية الفاشلة، وحتى رسائلي القديمة التي كنت أنوي إرسالها إليك و ترددت في إرسالها، إلا أن الخزينة لم تتمكن من استجابة طلبي، وهو الوصول و الالتقاء بك، أو حتى الفرصة أن أبوح بما أكنه لك من مشاعر، عندها أدركت بأن شيطاني الذي صفدته قبيل منامي تمكن من الهروب فقط لإغواء عقلي المغلوب على أمره.


رغم كل المواجهات التي أواجهها في حياتي، إلا أنني مؤمنا في يوم بأن رسائلي المتكررة سوف تصل يوما إلى مينائك، وعندها أتمنى أن أكون على حق بأن أشهد لقاؤنا الأول، أن تبادليني المحبة، ليكون القلب المنقبض من أحوالي إلى المسرور، الطائر كالبلبل بين أغضان الأشجار يشدوا بأحلى الألحان.


إلى أن تجمعنا الأقدار يا آنستي...



حبي .. و مودتي،


قرمت القرمتي

الخليج العربي، مارس ٢٣ ، ٢٠١٠

الساعة الثانية فجرا


* يونس بحري هو أحد الرحالة العرب الذي قرر الانتقال إلى أندونيسيا لتعليم اللغة العربية و الدين الإسلامي الحنيف، بطلب من ملك السعودية عبدالعزيز آل سعود، رافق كل من المؤرخ الكويتي الأول عبدالعزيز الرشيد و الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، أصدر مع الرشيد أولى مجلة كويتية في المهجر تدعى الكويت و العراقي في ١٩٣٠.





Wednesday, March 17, 2010

سؤال الأسبوع

ليلة الثلاثاء هي من الليالي المقدسة عند والدي عبد الله القرمتي، والتي عادة ما يقضيها في الذهاب إلى عدة دواوين في مناطق متفرقة من البلاد، والتي يتصادف أن يكون موعدها هو الثلاثاء من كل أسبوع، والدي الذي لم يعتد على السهر، يسهر حتى الساعة الحادية عشرة مساءً.


اللافت مساء أمس مناقشة رواد ديوانية النوخذه العم بو سالم* لأغاني الفن الجميل، وبما إني من هواة الأغاني العتيقة و ذلك الزمان، استمعت باهتمام شديد للحديث الدائر، حتى أكتشفت بالصدفة أن رواد الديوانية يعيدون ذكرى أم كلثوم بالاستماع لإحدى أسطواناتها في أول خميس من كل ِشهر، تخليدا لذكراها.


المفاجئة كانت عندما تطرق والدي في الحديث عن جدي لأمي، وهو الذي كان من أشد معجبي الراحلة أم كلثوم، حتى إنه حضر عدة حفلات لها في القاهرة، العم بوسالم قاطع حديث والدي، و شرح بإسهاب عن حكاية شراء جدي للشقة العلوية لأم كلثوم في شارع أبو الفدا، وعن عملية بيع جدي للشقة بعد وفاة الراحلة حزنا على وفاتها، ولم يزور القاهرة من بعدها، حتى وافته المنية في يناير ١٩٨٩.


الاستماع لذكريات الجميع كانت مذهلة، ولكن ما أستغربته هو ولع الكثير في الفنانة سميرة توفيق، حتى لاحظت الشغف الكبير الذين يكنونه لها من خلال حديثهم، وبصراحة " ما أدري ليش؟ من زود جمالها الفتان مثلا؟"، حاولت أستدرج والدي للحديث، إلا أنه " لبسني".



السؤال... ما هو سر إعجاب شيِّابنا في الفنانة سميرة توفيق؟ و ما علاقة ارتباط " المسابيح " بها؟




*العم بوسالم أحد أشهر نواخذه الكويت، زامل جدي لأبي و جدي لأمي في البحر حتى وفاة جدي أحمد القرمتي في أوائل الثمانينيات، يحرص والدي على زيارته كل أسبوع حتى يومنا هذا.

Sunday, March 14, 2010

الإصلاح المشمشي

مقدمةٌ


إن اللغة العربية هي من اللغات الكونية التي لا يمكن لأي شخص أن يسيء فهم معناها المنشود، إن وضعت الكلمات و العبارات في صياغة لغوية سليمة و متينة، ويرجع ذلك إلى كثافة الأحرف و الكلمات التي تأتي مصاحبة لللغة، والتي تكاد لا تعد ولا تحصى، فهي أكثر اللغات ثراءً في مفرداتها، و المثير للاهتمام في اللغة العربية ارتباطها القوي في الدين الإسلامي السماوي، ولا يمكن لأي مسلم أن يستهل صلواته اليومية إلا بقراءة الفاتحة و ما تيسر من سور القرآن الكريم.


لذا أحرص أن أفسر بعض الكلمات و المصطلحات التي أود أن أخوض فيها في موضوعي قبل مناقشته، حتى لا أعطي المجال للتأويل العقلي و النفسي الخاطئ، فإن تفسير المصطلحات سوف يساهم في إيصال الفكرة و المضمون بسرعة فائقة إلى العقل، وبذلك باستطاعتي التحكم في الأفكار التي أود أن أبثها كمرسل إلى المستقبلين لهذه الكلمات.


كان محور حديثنا الليلة الماضية في ديوان أبو العتاهية البيزنطي عن حالة التجاذب السياسي ما بين السلطتين التشريعية و التنفيذية، وبما إني ليس من الذين يهون الحديث عن السياسية في العلن، تجنبت الحديث مع رواد الديوان المكون من زملاء الدراسة في الموضوع، ولكني حثيت بعضهم للرجوع إلى القواميس لاستخراج المعنى الصريح لكلمة الإصلاح لنفتح باب النقاش من بعدها في طريقة حضارية.


بحثنا عن معنى الإصلاح، و تبين أن معجمي لسان العرب و الصحاح اتفقوا على معناه، وهو أن كلمة الإصلاح ترجع إلى الصلاح، وهو الصَّلاح ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً، الغريب من وجهة نظري هو تطابق المعنى في المعجمين، والذي حاولت أن أقنع أحد الزملاء بالفكرة، إلا أنه فاجئني بإصراره أن كلمة " المعجم" تعود إلى قبيلته (قبيلة العجمان)، حاولت أن أفهمه بالحقيقة، إلا أنه أصر على أن قبيلته لهم الفضل في ابتداع فكرة معجم اللغة العربية.


الحديث في الديوان أرجع بي الزمان إلى سنوات جميلة ماضية قضيناها في الخارج، لم أكن أتوقع أن تتحول المواقف التي عاصرتها بهذه الروعة، أما عن نفسي، لم يكن الخيار لي في اختيار الدولة التي أردت أن أتتلمذ فيها، ولكن تعاون القدر مع والدي أسفر عنها، وحرص والدي على إجلائي خارج البلاد لنيل درجات العلم.


خلال فترة إقامتي المؤقته في الخارج، تولدت لدي بعض الأفكارالإنشائية التقليدية التي إلتصقت التساق صمغ " السوبر غلو " الإفرنجي في عقلي الباطن، بأنني سوف أعود يوما ما إلى مرفأ الوطن محملا بشهادة " الأستاذية"، والتي سوف تساعدني على إعمار وطني من خلال العلوم التي كسبتها طيلة السنوات الطويلة المجحفة في الخارج، تعرفت من خلالها على أمراض الإنعزال و الغربة و الوحشة، ما جعلني أنتظر يوم الرجوع على أحر من الجمر، لأقود جهود التغيير و الإصلاح.



بداية المتن:


أتضح لي من خلال دراساتي وإطلاعي العميق في مخاض الإنثروبيلوجيا، أن لكل عصر إنساني كلمات و مفردات دارجة راسخة، تميل النفس البشرية إلى استخدامها في مختلف المنابر سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، مثلا فإن مفردات مثل أترصه* و التلام** و زمجر***، لا يمكنها أن تكون دارجه في عصرنا المعاصر، ربما لأسباب متعلقة في الطبيعة الإنسانية الفطرية التي استبدلت اللغة العربية الفصيحة بلهجة محلية خفيفة، وبذلك فإن تلك الكلمات السالفة الذكر اختفت تماما، من استخدامنا اليومي المعتاد، ما أدى إلى ظهور مفردات أخرى مماثلة لها أخف نطقا.


ولعل من الكلمات الأكثر شهرة في الكويت ابتداء من العصر الجديد منذ عام 2006، هي كلمات مثل الإصلاح و التغيير و القضاء على الفساد، استنكار العدوان الصهيوني، طائرات أجنبية مثل الأباتشي و الهيركوليز و الـ B52، و الاستجوابات، حكومات الشيخ ناصر المحمد، الإعلام الفاسد، انتخابات فرعية، تشاوريات، مزدوجي الجنسية، سكوب، السور، العدالة، زهير العباد، بوعيده، التغيير، وغيرها من المفردات الأخرى


إلا أن ما لفت نظري هو شيوع استخدام كلمتي الإصلاح و التغيير بين الساسة الكويتيين، ويمكن تفسير توظيف تلك الكلمات لوصف جهود الحكومة الأولى لسمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الصباح، وهي التي تعرضت لهجمات شرسة من بعض الأطراف، إلا أن كتلة العمل الوطني آن ذاك تكفلت بحمايته، واصفه جهود سموه بالإصلاحي، ومع إعادة تكليفه لست مرات، أصبح كلمتي الإصلاح و التغيير أشهر من أسماء وجبات المطاعم الوجبات السريعة، لا أشكك في النوايا الإصلاحية، ولكن كيف يمكننا أن نصف الإصلاح السياسي في الكويت؟


لم استطع أن أحدد أي خطوات أو جهود يمكني الإستناد عليها أو تسميتها بأنها خطوات إصلاحية، في حين أن مدركات و معدلات الفساد العالمية أوضحت تراجع الكويت ٣٠ مرتبة خلال الخمس السنوات الماضية، وحلت الكويت خلال العام الماضي المرتبة ٦٦ عالميا.


بات بإمكان المواطنين و المقيمين من رؤية الخطوات التي تشهدها الكويت إلى الوراء خلال السنوات الماضية، و التأكد من معاناة الدولة من مشاكل تخص الدول النامية مثل سكن العزاب، تجارة الإقامات، انعدام و رداءة الخدمات العامة ابتداء من الخدمات الصحية إلى الصرف الصحي، فضلا عن تردي البنية التحتية التي لم يجر تطويرها منذ بنائها، فضلا عن افتعال شرارات الصراع ما بين التيار المدني عن طريق جمعيات النفع العام، و الصراع التقليدي ما بين السلطتين التشريعية و التنفيذية.


جميع ما سبق مشاكل هامشية لا ترتق إلى المشاكل التي من المفترض العمل على إيجاد مخارج لها و السعي إلى معالجتها، مثل إعادة تقييم المناهج العلمية و الأدبية في وزارة التربية و التعليم، الارتقاء في الخدمات الصحية من خلال بناء المستشفيات، وكذلك السعي وراء الاهتمام في المنشآت التعليمية و الثقافية، مثل بناء إعادة ترميم البيوت القديمة و التاريخية، أو إنشاء مدينة ثقافية تذكر الأجيال القادمة في تاريخ الأجداد، أو حتى إعادة صياغة التشريعات القانونية المعمول بها في الدولة، لأن بعض القوانين لا تصلح للاستخدام في الوقت الحالي، وتنص بعض القواني على دفع الغرامات و الجزية على الآنة و البيزة، بينما لدينا عملة وطنية منذ الستينيات من القرن الماضي.


الهموم السالفة الذكر لم تشغلني بقدر ما أشغلني في التفكير بالطريقة المثالية لقيادة رغبة التغيير في مجتمعنا، في ظل وجود جماعات متفرقة تتربص على كل من يسعى لتنفيذ مثل تلك البرامج و الأجندات، ذكرتني حالتنا في الكويت إلى المعضلة المصرية التي يعاني منها المصريون إلى وقتنا هذا، و تتمثل في ضياع الحركات الإصلاحية فيها


إن التحركات الشعبية في مصر الحديثة مثل تلك التي قادها الزعيمين سعد زغلول و أحمد عرابي و غيرهم، لاقت دعم و استحسان شعبيين واسعين، لأنها من وجهة نظرهم حركات وطنية تحريرية خالصة تهدف إلى مهاجمة و طرد الاستعمار الأجنبي من الأراضي المصرية، ولم تدم هذه النظرة بعد وصول حركة ضباط الأحرار إلى سدة الحكم، والتي سجل للتاريخ تسلم أول مصري الحكم المستقل لدولته.

ومع استلام الضباط الأحرار الحكم تحولت معها المفاهيم المستنيرة اللحركات الشعبية المطالبة بالإصلاح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، وأصبحت المطالبات بهذه الأمور بمثابة التحرك لإسقاط النظام الجديد في فكر الضباط الأحرار(الناصريين) و من إتبتعهم من الموالين لهم، بل وصفت السلطة المصرية في ذلك الوقت أي تحركات تهدف للتغيير و الإصلاح في أي من الميادين السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية بالخيانة العظمى لمصر، لأن المصري عندما ينتقد الحاكم المصري الجنسية فإنه حتما ضده، على عكس أيام الاحتلال البريطاني، والذي كانت أي تحركات فردية وإن كانت حمقاء و غير سوية تحول الشخص إلى بطل قومي.


أصبحت بعدها كما هو الحال في الثورة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، تقمع وتصفي حساباتها بالإقصاء والقتل، و صنفت الحركات الإصلاحية بالتحركات للتخابر مع الدول الأجنبية لإسقاط النظام المصري الحاكم، ما أدى إلى إعاقة التقدم المصري الملحوظ و المشهود له، لأنه ببساط أي تحركات من قادة الرأي و العلماء تعتبر ضد النظام كما سبق أن أوضحت، وبذلك فإن الدولة المصرية انتقلت من النظام التفكيري العلمي إلى نظام عسكري، الذي لا يترك للعقل فسحة للتفكير، وإنما لتنفيذ الأوامر الصادرة فقط من دون طرح أي أسئلة.


الوضع الحالي القائم في البلاد حاليا لا يختلف كثيرا من المشهد المصري السابق، وإنما أصبح واقعا حقيقيا، لأن كل من يدافع أو يهاجم السلطة في الكويت يدخل ضمن إطار المعادي للسلطة و النظام المعمول به في الكويت، حتى أنني سمعت لبعض الأطراف التي استمعت لاستجواب سمو رئيس الوزراء، وصوتت لصالحه بأنه إن لم يصوت معه فإن نظرة – بعض الشخصيات المهمة- بأنه ضد النظام برمته، وهو أمر خاطئ، لأن جميعنا كمواطنين لا تختلف مشاعر الحب والولاء لهم، والمعادلات السياسية هي بعيدة كل البعد عن تلك الأفكار.

إن رواج مثل تلك الأفكار السابقة و تحولها إلى واقع يقلقني جدا، فإن ما حدث في مصر سابقا من الممكن أن يتجدد في الوقت الحالي، فمثل حفل إقامة التأبين قسم المجتمع إلى قسمين، و قضية مثل بث قناة غير مرخصة أثارت المجتمع و قسمته أيضا إلى أقسام، و الدولة أيضا في مواجهتها إلى أي استجواب تقسم ممثلي الشعب إلى أقسام، إذا فإن التقسيم و الفرز هي سمة من سمات التي اعتمدت عليها السلطة التنفيذية بالأساس!


كل ما سبق سوف يدفع المهتمين بالإصلاح السياسي في الكويت باللجوء إلى الصمت الإجباري وانتظار ساعة الصفر التي سوف تقع الدولة فيها في حفرة عميقة لن تستطيع النهوض أو الخروج منها، أو العمل بصمت، ما يدل على ضعف إمكانياتها، و المهتمين في الحركات الإصلاحية، بسبب " الصفة " التي سيطلقها المجتمع أو النظام السياسي على كل من يأمل و يريد الإصلاح، و تصنيفه ضمن التقسيمات التي عادة ما تكون بارعة فيها.


إن العمليات الإصلاحية ينبغي أن تكون بصدق شفاف، أن تلغى العلامات و المساحات الرمادية منها، أن نفقه بأن الاختلاف لا يولد التعصب أو اللجوء إلى التصرفات التي تظن السلطة أن ممثلي الشعب أو المواطنين سيلجؤون إليها.


في النهاية .. لست من المتفائلين في الإصلاح الذي أصبحت كلمة دارجة و متداولة حتى من أطفالنا الذين يحرصون على الذهاب إلى الروضة في صباح كل يوم.


الأغنية التي تبادرت إلى ذهني هي هو ده إلي صار .. لسيد درويش رحمه الله.



لم أجد التسجيل بأداء سيد درويش مع إنني أرى أن أدائه هو الأفضل مع إحترامي الشديد لفيروز

** خارج المتن:


من القصص التي لا يمكني نسيانها من التاريخ المصري ما قبل ثورة الأولى هي لإبراهيم الورداني، وهو شاب مصري صيدلي درس الصيدلة بسويسرا (1906 حتي 1908) ثم سافر الي إنجلترا لدراسة الكيمياء عام 1909، قام بإغتيال الوزير المصري بطرس غالي في عام 1910. وكان إبراهيم من أتباع الحزب الوطني وأحد أعضاء الجمعية السرية، جمعية التضامن الأخوى.


حكم عليه بالإعدام وقبض على كثير من أعضاء الجمعية، على الرغم من اعتراض مفتي مصر، الذي أصر على أن الورداني يعاني من مرض نفسي، ولكن الإنكليز أصروا على إعدامه، وكان لهم ما أرادوا، أعدم في اليوم التالي من حكمه، و منعت قوى الاستعمار من نشر صور الورداني إلى سنة ١٩٥٨.


و يعتبر بطرس غالي - حسب موقع ويكي بيديا- أنه من اكثر الشخصيات خيانه لمصر فى العصر الحديث حيث له أفعال فظيعه منها محاوله مد أمتياز قناة السويس لصالح الأحتلال و اعدام فلاحين دنشوادى وقانون المطبوعات وإتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان وعلى الرغم من ذلك نجد من يدافع عنه مدعيا أن كان موظف ينفذ الأوامر علما بانه كان هناك غيره الكثيرين و لم يفعلوا عشر ما فعله فى مصر بل قاومه بعضهم مثل الزعيم محمد فريد فى محاولته تمديد امتياز شركة قناة السويس

للإطلاع على السبب الذي دفع الورداني حادثة دنشواي

السؤال الذي تبادر إلى ذهني هو ما الذي دفع الورداني إلى فعل فعلته؟


*أترصه: أحكمه و سواه

** التلام: كل شق في الأرض

***زمجر: صوت أحبسه في صدره و أخرجه بغلظ


Sunday, March 7, 2010

إلى محمد الفايز في رحيله


مقدمةٌ


تمنيت ليلية الخميس الماضية أن يكون باستطاعتي الرجوع في الزمان إلى الوراء، ليس من أجل إصلاح ما أفسده الدهر، أو تصويب قراراتي الخاطئة في الحياة، وإنما لأتمكن من ممارسة حياتي بأسلوب مختلف، أن أركب الأمواج سعيا من أجل توفير لقمة العيش، أن أزامل جدي النوخذه في محمله، أن أغطس في أعماق خليجنا شديد الملوحة لعيون الدانة، أن يتوقف دولاب الزمان في تلك الحقبة، عندما كانت للثقافة و التعليم مذاق خاص.


كل هذه الأمنيات راودتني عندما انشغلت إذني بالاستماع إلى أشعار محمد الفايز، والذي أعادني بالتفكير إلى الوراء لعشرات السنين، إلى يوم ولدتني أمي في بيتنا الطيني الصغير، والذي لم يتجاوز مساحته المائة مترا، نظرا لحالتنا المادية المعدومة، لم يكن والدي يشغل منصب مستشارا قوميا أو كاتبا مرموقا في المجتمع، أو حتى محاسبا مسؤولا عن " الكمارك" ، و إنما كان على النقيض تماما، يعمل في البحر مثل غيره من البشر الذين عاشوا و قضوا أيامهم في الكويت، تدرج في العمل من مجرد غواصا إلى مجدمي إلى أن أصبح "نوخذه" " قد الدنيا "، أصبح و أخوه بعدها مستشارين لأمير الكويت الشيخ مبارك الكبير


وبما أن والدي أصبح نوخذه كان لا بد مني أن أتقمص دور ولد النوخذه، ألبس أفضل الدشاديش، أتأقلم مع أسلوب الحياة االجديدة، بدءً من شرب " التتن " واستنشاق" القدو " و الإدمان عليه في قهوة بوناشي بعد صلاة العصر، وهو البرستيج الدارج عندنا، إلا أن والدي، والذي تربطني علاقة قوية، وباستطاعته معرفة ما يدور في خلدي فور تفكيري، قاطعني قائلا " معصي، لا تفكر إنك تتشيحط جدام الناس، ولا تترزز في القهاوي، أنا ما عندي ريايل يحطون ريل على ريل يدخنون تتن!، عندي ريايل يأخذون بالعلم، يشتغلون و يكدون على البيت، و ما أبي أشوفكم تشوفون نفسكم على الناس"


في اليوم التالي، أدرجني والدي عند الشيخ حمادة مجددا لأتعلم علوم و الرياضيات و اللغة العربية بطريقة متطورة، وكأنه يشعر بأني سأكون بارع في اللغة العربي، فأنا لم أكن جيدا يوما في الأمور الفنية، ولكني كنت بارعا بالكلمات، منح والدي الشيخ حرية التصرف معي لتأديبي عندما أخطئ، بل أوصاه بضربي إذا " تشيطنت "، وكانت محصلتها ضغف إذني اليمنى، والتي باتت تعاني من ضعف السمع، نتيجة كثرة مشاغبتي


كان الشيخ حمادة طيب القلب إلى أن " تفرعنت " في إحدى حصص الرياضيات، والتي لا أجيدها على الإطلاق، وقال لي حينها " منت فالح، أنت مو ويه تجاره، حدك ناطور عند عمك بو مطر"، استمرت حالتي على هذا الوضع إلى أن حل الكساد الاقتصادي العالمي، أعلنت اليابان – الله يلعنها- اللؤلؤ الصناعي والتي حولت " تبرات "* جدي المشهورة إلى " ماي مايوه " ما منها فود


بداية المتن:


كل هذه الذكريات السالفة الذكر وجدت طريقها إلى عقلي المزدحم فكريا و نفسيا و جسديا، خلال تصفحي للمرة الأولى مرة ديوان " مذكرات بحار " للشاعر المرحوم محمد الفايز، الذي أتحفني بقدرته الشعرية الساحرة، لم أجد في أسلوبه أي تكلف في اللغة، بل على النقيض، أستطاع أن يثري خيالي بصور لغوية لا يمكن لأي فيلم سينمائي أو عمل مسرحي أن يجسده بدقة متناهية مثلما كتب


أكتشفته الأسبوع الماضي، وندمت على تلك الأيام الطويلات التي جهلت المعرفة التامة به، على الرغم من معرفتي لأوربريت الغنائي المشهور الذي ألفه " السندباد" ،و لحسن حظي إني وجدت ديوانه الشعري " مذكرات بحار" في مكتبة البيت الشعرية مصفوفة في جوار دواوين عبدالرزاق البصير و عبدالله زكريا الأنصاري و أحمد مشاري العدواني، و د.عبدالله العتيبي، ومحمد المشاري، ومن شدة إندماجي بالديوان لم أتمكن من النوم إلا بعد أن أفرغت من قراءة مذكراته الـثمانية عشرة كاملة


لم أتمكن من إزالة المذكرة الثانية من عقلي، وهي ذاتها التي تلاها علينا الأديب عبدالله خلف في ذكرى وفاته الأسبوع الماضي، حتى إنني حلمت بها، بدأ حلمي ليلتها بأني على أعتاب الشيوعي " مساعد " ، يدفعني والدي لصعود صدره، كانت نظراتي تملؤها الخوف والرهبة، وكيف لا وأنا لم أعتد على ترك والدتي العجوز و والدي المسن في بيتنا الطيني بمفردهم من قبل كما لم تربطني علاقة بالبحر في حياتي، أعتدنا على السباحة على سواحلها،و لكن لم يسمح لنا بالتوغل في أعماقه لصغر سننا.


والدي الذي يعرفني جيدا قاطعني موجها كلامه لي قائلا " لا تخاف من البحر، أنت قرمت القرمتي، والدك النوخذه عبدالله وجدك النوخذه أحمد و أخوه النوخذه إبراهيم و النوخذه عبدالله، البحر إلي راح تعبر فيه يعرف أهلك زين، فهو صديق حميم لجميعنا، حتى أمواجه، إن أحترت في أمر ما إلجأ إليها، و أفرغ ما في فؤادك لها ، وصدقني إنها سوف تجيب على جميع تساؤلاتك، وإن كانت الأمواج غاضبة، فإنها سوف تكون رحيمة عليك أنت بالذات"



ركبت الشيوعي بخطوات ثقيلة، كنت برفقة المجدمي الذي دلني على مكاني، وهو صديق جدي رحمه الله، أوضح لي بأن البحر سوف يتعمد إخافتي خلال الأيام العشر الأولى، ليختبر قدرتي على التحمل، و مدى شجاعتي على الصمود في وجهه، و إن توفقت في تخطيتها ببراعة فإني سأكسب ود البحر و صداقته الأبدية، لا سيما أنه يحمل في قلبه معزة كبيرة لأسلافي الذين قضوا حياتهم كلها بين أحضانه.


المفاجأة السارة التي تلقيتها عند صعودي أن مركبنا سيمضي في بداية رحلتنا بتبرات جدي، والذي سميت بإسمه في طريقنا إلى زنجبار و منها إلى الهند، وبهذا فإن القدر أعطاني الفرصة لألتقي جسديا و روحيا بجدي من خلال هذه البقعة المائية، والذي لم يسنح القدر الفرصة بلقائه، ولكن سيكون موعد لقاؤنا غدا.


يقول الفايز في مذكرته الثانية:

الشمس فوق السور تشرق مثل قنديل كبير

تهدي خطانا مثلما كنا على ضوء النجوم
في الليل نسري عبر هاتيك البحار
أيام كنت أعيش في الأعماق. أبحث عن محار
لقلادة. لسوار حسناء ثرية
في الهند. في باريس. في الأرض القصية
أيام كنت بلا مدينة
و بلا يد تحنو علي و لا خدينة
إلا حبالي و الشراع
و يدي المقرحة الأصابع و الضياع
و الريح. و الأسماك في القاع الرهيب
غرثى تطاردني بعالمها الغريب
عن عالمي القاسي العنيف
يا بحر. يا قبرا بلا لحد. و يا دنيا عجيبة
أجتاز عالمها المخيف بروح بحار كئيبة
أبدا يغني للسواحل و العيال
يترقبون قدومه بعد المحال
و يعود من رحلاته كيما يعود
للبحر و الأسفار. و الدنيا كفاح
ضد المجاعة و الرياح
الجوع فوق الأرض و الريح الخؤونة في البحار
و تظل زوجته هناك بلا سوار
و بلا قلادة
في بيتها الطيني حالمة وحيدة؛
سيعود ثانية بلؤلؤة فريدة
يا جارتي سيعود بحاري المغامر
سيعود من دنيا المخاطر
و لسوف تغرقني هداياه الكثيرة
العطر و الأحجار و الماء المعطر و البخور
و لقاؤه لما يعود كأنه بدر البدور
و تظل تحلم و الحياة
حلم يجول بلا نهاية
و بلا بداية
و الشمس و الأقمار تشرق فوق كوكبنا الكبير
و أنا هنا في هوة الأعماق كالحوت الصغير
فكأن هذي الشمس ما كانت. و لا كان الصباح
إلا لغيري. و القناديل الصغيرة
أبدا تضاء بغير بيتي و الحدائق و الأقاح
في حقل غيري. و الرياح
أبدا تطاردني على ظهر السفينة
و الموت و الحوت اللعينة
و السيب و الديين في كفي و آلاف المحار
في القاع تبرق باخضرار
كعيون عفريت يطارده النهار
مثل المصابيح الصغار
و الدود و الأسماك حولي و الحجار
أواه يا تعب البحار
حطمت ظهري. و الحياة رحى تدور كما يقول
نهامنا في الليل: أيام تزول
و تدور أفلاك الحياة لغاية فوق العقول
يا أيها البحار سوف تظل في ليل البحار
نجما بلا أفق. و في تلك السواحل
الشمس تشرق في الخمائل
كعروسة شقراء. و الدنيا نهار
في عين غيري. و السوار
سيصاغ للحسناء في بمباي يا روحي الكئيبة
نهامنا يشدو لشطآن قريبة
سأرى بساحلها الحبيبة
عدنا على ضوء النجوم إليك يا دار الحبيبة
و الريح نشوى و الشراع كأنه سرب الحمام
سار على صوت النهام
و يظل ينهم و السواحل من بعيد
تبدو لنا صفراء تعكس كل ما فينا من الشوق الشديد
و تطل كثبان الرمال على الضفاف الحالمات
و نساؤنا المتحجبات
يضربن فوق دفوفهن كأنهن بيوم عيد
فرح اللقاء على الوجوه و في النذور
و الشمس فوق السور تشرق مثل قنديل كبير
تهدي خطانا مثلما كنا على ضوء النجوم
في الليل نسري عبر هاتيك التخوم





كتلة من المشاعر الجديدة أختبرها لأول مرة خلال يومي الأول، الإحساس بالوحدة و الابتعاد عن الوطن، تبخر اليابسة من حولي فجأة بعد أن تعودت أن أقضي أيامي كلها على رمالها، وانحصار ألوان الطيف السبع في اللون الأزرق، بينما تلقي أشعة الشمس بنورها على البحر، وفتيل القمر ليلا، التي حولت حيتان البحر نجوما في جسدها المترهل.


لم يتطلب منا الغاصة في اليوم الأول العمل، و كل ما انشغلت فيه هو التفكير .. التفكير .. و المزيد من التفكير، أرى وجوه أشخاصا لا أعرفهم، وفي الليل تجافيني عيوني و تحرمني من النوم، لم أكن في يوم من الأيام فلكيا، ولكن تمكنت من قراءة النجوم ليلتها، وبات قلبي المنقبض يتمنى أن يرسل رسائلا إلى الحبيبة التي لا تعلم عما يكن لها الفؤاد من مشاعر.


عزيزتي .... لم تكن فكرة رحيلي فجأة من بنات أفكاري، وإنما أبتدعها القدر من لا شيء، ودفعها نحوي لتصبح واقعا لا قرار لي فيه، يا ليتني أعرف السر الذي يكمن وراء دفعة والدي لركوب الشيوعي يومها، أغلق عيناي عاجزا عن مواجهة الشهوب، لا أري شيئا سوى السواد،تتراقص فيها الأحرف الأبدجية التي تعلمتها في الصغر أمامي، و ترسم الخطوط الموسيقية الخمس من بعدها، مي، صول ، سي ، ري ، فا، و المسافات الأربع، فا ، لا، دو ، مي، بعدها يبدع خيالي في استرجاع أغاني النهام الذي شجى قبل قليل، مع صوت البحر الهادئ المخيف، وعلى أدراجها تظهر مفتاحي الصول و الدو، تتبعها الترنيمات الموسيقية جميعها بأشكالها الأربع.



كل ما يبثه خيالي هو لقائي الأول بها، والذي كان بمحظ الصدفة، كانت مترتديه لباسها البنفسجي و حجابها الأسود، مضت أمامي ليلتها بثقة يملؤها ثقل الأرض، عندها حاولت أن أغض البصر، ولكن نبضة القلب منعتني، وقعت أعيننا ببعض لثوان معدودة، بدا قلبي الذي يقدس الحب و بنيته الصادقة يحن إليها، لم يكن هناك اتصال مباشر ما بين الجنسين في مجتمعنا، وعلى الرغم من ذلك فإن قلوب المحبين تتعلق و تتعانق ببعضها لا إراديا، يطلق على تلك العملية في تراثنا بالقسمة و النصيب، والتي أصحبت أرددها كثيرا، أحدث نفسي ربما تكون فعلا من نصيبي، و يبدأ خيالي الخصب بعدها برسم صورا جميلة ليوم رجوعي إلى دياري، في يوم القفال تكون والدتي و النسوة من قومي في استقبالي و البحارة، أقبل رأسها، لأجدها -الحبيبة- في الصفوف الخلفية تبتسم.


بعد هذه الصور الخيالية يصحيني المجدمي " قووم .. قرمت.. قرمت.. “، وأرد عليه" هلا عمري "،" قصر الله عمرك، منو عمرك؟" شحلمان فيه!، ققووم عمى بعيينك"، لأجيبه " ولا شي عمي ولا شي"، صلينا الفجر ليبدأ بعدها يومنا مع الغوص، الرهبة من اللقاء الأول، تبلل المياه جسمي، أضع المشبك على أنفي، أعد من واحد إلى ثلاثة و من ثم أغوص في أعماق البحر لمدة دقيقتين وهي المدة القصوى لسعة صدري، أجمع ما استطعت من المحار و أصعد تدريجيا إلى سطح المياة.


أستمر عملنا في الصباح نحو خمسة ساعات متواصلة من الغطس إلى أعماق البحر، القفص الصدري بدا منهمكا من عمليتي الشهيق و الزفير المتواصلة، وحبس هواء الشهيق بداخله لدقيقتين متواصلتين، ليدفعها بعد باردتداده لتصبح زفيرا، وتبدأ حلقة جديدة من عملية التنفس من جديد، أسفرت محاولاتي الأولى بخروجي بـ ٩٠ محارة، صعدت على ظهر الشيوعي لتبدأ عملية البحث عن الدانة.


وفي الوقت الذي كنت فيه مبتسما بالنتائج الأولية لأول يوم في العمل، شعرت بحرقة أليمة مفاجئة في الصدر، بعد أن أستوعبت المفارقة المضحكة التي أعيشها، أعمل جاهدا طوال أشهر طويلة لاستخراج اللؤلؤ الطبيعي من قاع البحار، ليباع إلى الطواويش، الذين بدورهم يحولونه إلى الحلي بأشكالها المتنوعة ليتزين في النهاية على رقبة إحدى النساء من علية القوم، بينما أكون عاجزا أن أهديه إلى حبيبتي، التي بقي عنقها خاليا.


وصلنا إلى الهند بعد أشهر طويلة، تعلمت من معاشرة البحر أنه لا أمان لشيء أو ثبات، فقدت في رحلتي الأولى المجدمي، الذي ألقي بجسده في البحر بعد استشهاده بجراحه بعد أن قضمته " سمك قرش " في المحيط الهندي، بعدها سلم النوخذه المهمة إلى أكبرنا سنا من الغاصة، عندما وصلت إلى الهند كانت مهمتي أن أجلب الأغراض من محل جاسم بودي، بعد أن حملت الأغراض إلى الشيوعي.


في ليالي الهند بقيت على فراشي أفكر في الديره، في هذه الأوقات تسرح حبيبتي تفكر بحالي، تحدث نفسها ولأقرانها بأني راجع إليها محملا بعقد من اللؤلؤ الصافي الطبيعي، أهديها الدانات التي أصطدتها، والذهب، و أجود أنواع البهارات و البخور الفاخر، وفي الحقيقة كل ما أستطيع تقديمه إليها أقل من سدس تولة دهن عود معتق، وعباءة محيوكه بأيدي أطفال حدهم الفقر لمزاولة مهنة الخياطة، إن مجرد التفكير بتلك المفارقة مؤلم بالفعل.


شعور الرجل أنه غير قادر على توفير قوت يومه إلى بيته و حبيبته لا يوصف، فكيف لي أن أرجع إلى أرض الوطن، ويداي فارغتين؟، أعمل على إيجاد الدانة، و أجلب أفضل البضائع للناس، بيد إنني عاجر عن توفيرها إلى الحبيبة؟، اختليت بالبحر، متذكرا والدي الذي نصحني بمواجهتة، وجهت وجهي لشطر ميناء مومباي، إلى أن توصلت لحل شافي و مرضي، أن أبقى هنا إلى أن أحصل على مرادي، أن لا أرجع إلى وطني إلا محملا بالعقد الذي سيعلق على عنق الحبيبة.


شرعت بكتابة رسالة طويلة إلى والدي، شرحت فيها خطتي في العيش هنا في الهند، على وعد أن أرسل له ما تيسر من مال حين أحصل عليه، وأخبرته بأنه العم جاسم بودي وعدني بأن أعمل لديه مقابل أجرة مجزية، علمني أساسيات الرياضيات الحسابية، تدرجت في العمل بعد سنوات إلى أن أصبحت المسؤول الأول عن الحسابات التجارية، تمكنت أن أشتري عقد اللؤلؤ الذي سأزينه على عنقها.


قلت لنفسي أنه بعد هذه السنين بات باستطاعتي العودة إلى دياري، ضممت العقد إلى صدري، وتوجهت إلى العم جاسم لأبلغه بقراري العودة إلى الديره، استسفر مني عن الأسباب، الذي لم تفارقه الابتسامة بعد أن شرحت له التفصيل، ووافق على طلبي، ولكنه أصر أن أدير مكتبه في الكويت مؤقتا، وأن الباب مفتوح للعودة مجددا.


أستغليت أول مركب متوافر للرجوع إلى أحضان الكويت، بدأت بالابتسامة عندما استقريت مكاني في البوم، تذكرت موقفي و تجربتي الأولى مع البحر، وشقاوتها إلا أن موقفي اليوم بات مختلفا تماما عن السابق، فأنا مجرد راكب، مواطنا عائدا إلى وطنه، انتظرت هذه الفرصة طويلا، بدأت أضم عقدي الذي أخفيته بداخلي، والذي أصبح العقد الذي ستكون شبكة خليلة القلب.

رجعت إلى أرض الوطن، وسط فرحة الأهل، ضممت والدتي إلى صدري، وقبلت رأسها، لم يهمني أي مظهر من مظاهر الاحتفال و الفرح، جل ما يشغل تفكيري هي الحبيبة التي رأيتها وتعلق الفؤاد بها طوال هذه السنين، ولكنها لم تكن ضمن الحضور كما تخليتها عندما كنت على متن الشيوعي " مساعد " متوجها إلى الهند، ناشدت عنها، ولكن لم تكن هناك أخبار واضخة و مؤكدة عنها، وبقي العقد في الصندوق منتظرا.

*انتهى*


* تبرات في اللهجة الكويتية تعني المغاصات