Saturday, July 17, 2010

مسألة ضمير


من يعرفني عن كثب سيكتشف أني لست من الأشخاص الذين يحلمون أبدا، كل ما أتذكره من الليلة الماضية هو السواد و العتمة، ولكن هذه الأيام اختلف الأمر كليا، بدأت أعاصر أحلاما بعضها الغريب و الآخر أجد صعوبة بالغة في فهمها، لست من الأشخاص الذين يصدقون الأحلام، أو يسعون إلى معرفة معناها، إلا أني وجدت نفسي في ليالي عدة أقف أمام نفس الصورة التي التقطت في أحد المباني خلال رحلتي إلى الولايات المتحدة.

أورد هنا ما كتبته في مذكراتي.


أستمتعت كثيراً اليوم، خطيت بخطوات والدي هنا في نيويورك، عندما بلغت الثامنة من عمري، اصطحبني والدي إلى أماكن كثيرة أثناء زيارتنا إلى نيويورك، أولا إلى حاملة طيرات الانتربد، و الثانية إلى سنترال بارك، و الأخيرة إلى تايم سكوير، ولكن للأسف "كاتس" لم يكن لها نصيب في هذه الرحلة.


ولكن قبل زيارة هذه الأماكن المتفرعة، زرت مقر صحيفة النيويورك تامس، وهي صحيفتي المفضلة، الكثير من الزملاء يفضلون الواشنطن بوست عليها، ليس المقصود تهميش من مكانة الأخيرة، ولكن هناك أقسام في النيويورك تايمس لا يمكنك أن تغفل عنها، مثل نشرتها الأسبوعية الثقافية، لاسيما قائمتها الشهيرة لأكثر الكتب مبيعا، و الملحق التكنولوجي اليومي، إضافة إلى قسمها الدولي، والذي قابلته الليلة.


الجولة في أرجاء المكان كان لطيفا، سنحت الفرصة للقاء رئيس التحرير، ورئيس القسم الدولي، فضلا عن نائبة رئيس مجلس الإدارة، ولكن ما لفت انتباهي هي الصورة المعلقة على الحائط في الدور الخامس، وهو الطابق المخصص لفائزين بجوائز البوليتزر من الصحيفة، وهم كثر!


الصورة المعلقة في الطابق الخامس هي لأحد أشهر المصورين الذين استعانت بهم الصحيفة، ويدعي كيفن كارتر، كانت الصورة لطفلة سودانية تعاني من جوع و فقر شديدين، لا يطاق، لم يحاول كارتر مساعدتها،وإنما ظل لساعات -على حد رواية المسؤولين في الصحيفة- لإلتقاط صورة معبرة للطفلة، كان ينتظر أن يفرد النسر جناحيه خلف الطفلة، لتصبح الصورة مثالية جداً، ولكن باءت محاولاته بفشل ذريع، التقط كارتر الصورة، ومضى في طريقه من دون أن يساعد الطفلة.

الصورة نشرت في صحيفة النيويورك تايمس في عام ١٩٩٣، وتلقت الصحيفة سيلا من الاتصالات تستفسر عن مصير الطفلة، وطالب العديد من الصحافيين من الصحيفة أن تعد تقريرا مفصلا عن الطفلة، و حالة المجاعة التي تعاني منها أطراف السودان، وانتقدت الصحف الأمريكية بشدة تلك الصورة، ووصفت المصور "بالمعتدي جنسيا و الظالم و القاسي"، لأنه لم يكترث بمساعدة تلك الطفلة المسكينة.

وحاول عدة صحافيين أن يحاولوا معرفة مصير الطفلة بعد الصورة الفوتوغرافية، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة، وأنه من الأرجح أنها لقت مصرعها نتيجة الجوع.

حصد كارتر جائزة البولتزر للصحافة عن أفضل "فيتشر صحفي" في عام ١٩٩٤، وهو يأتي من أصول جنوب أفريقية، ولم يتحمل الانتقادات التي استمرت بملاحقته إلى أن انتحر في السنة ذاتها التي حصل على أشهر جائزة للصحافة.

الضمير على حد قول رئيس التحرير أدى إلى الانتحار، وأورد في رسالة انتحاره إنه ربما سيلاقي تلك الطفلة التي لم يتمكن من مساعدتها، ويقول في رسالته الأخيرة، إنه ربما ستسنح له الفرصة للقائها.. إن كان محظوظا!

الشيء الوحيد الذي يبقيني ساهرا حتى الآن هو انعدام ضمير المصور لتلك الطفلة المسكينة من ناحية، و إحساسه و ضميره الذي أنبه لفترات طويلة إلى أن انتحر، ما لم استطع فهمه، لماذا شعوري بأن انتحاره هو الحل الصحيح له، ولماذا انتحاره يشكل رمزا للمسؤولية؟

ما أعرفه، أن الانتحار هو شيء جنوني، ولا يجوز أن يحدد الإنسان مصير حياته في الأساس لأنه في النهاية الأعمار بيد الله عز وجل، وإنما في هذه الحالة فإن انتحار كيفن كارتر شكل صورة للضمير.

ما أود أن أتوصل إليه، إن ضمير كارتر يشكل شرفا كبيرا لضميرا حيا، بينما في وطني الكويت، الكثيرون سرقوا الملايين، و يتنعمون بأموالنا، أموال الشعب المسكين، ولا يعانون أبدا من الصور التي كانت تطارد كارتر منذ التقاطه لتلك الصورة.


في بلدي الملايين تنهب من مناقصات، رشاوى، و غيرها من المحرمات، و في نهاية النوم، يتمكن سراق المال العام من النوم، نوما هنيئا، بينما جفت عيون كارتر،و انتحر في النهاية، .. نعم لكارتر ضمير و شرف.


-- أكتوبر ٢٠٠٩


* صورة كيفن كارتر الشخصية، و بجانبها الصورة التي التقطها

في ١٩٩٣ كما بدت في مبنى النيويورك تايمس.


الصورة الأصلية التي التقطها الراحل كيفن كارتر.