مقدمة:
تعلمت توضيب الحقائب منذ بلوغي الثامنة من عمري، بفضل تنقل والدي كل بضعة أشهر إلى مكان آخر، لم تكن رحلاته بغرض التمتع السياحي، وإنما لظروف عمله القاهرة، فهو لم يستقر في بلاده إلا متأخرا، وجدت نفسي في بلدان لم أعلم بوجودها على الخارطة، مدن لم أكن أرغب في المكوث فيها، ومقاهي تمنيت أن أقطن فيها.
ما يجذبني في السفر هي تلك الغريزة الإنسانية التي تمتلكني كلما زرت مكانا جديدا، الضياع بين أزقة المدينة الفارهة، التعمد في التوهان بين شواع فينسيا أو باريس أو نيورورك أو حتى سافانا، كلها مدن عرفها جواز سفري قبل أن تتوطد معرفتي بها، كل ما تبقى من تلك الحقبة صورا فوتوغرافية مستخرجة من مصنع والدي الفوتوغرافي المنزلي.
ورثت عادة السفر عن والدي، لم أجد نفسي مستقرا في مكان واحد لأكثر من أسابيع قليلة، أحب الترحال، يعلق والدي على كثرة سفري المرتبط بالعمل أني بدوت كالسندباد، مستعدا للسفر مع كل فجر جديد لاستكشاف العالم الجديد، وتكون ردودي على ذلك النعت بأني أخذتها من جدي النوخذه، أجمل ما في سفرات العمل فرصة الوصول إلى أماكن لم تخطر على عقلي، لأيام محدودة، تساهم في كسر حاجزي الروتيني، أبدأ معها في تدوين ما يدور في الرحلة، مهنة التأريخ و التوثيق ليست سهلة، وما يزيدها حلاوة تلك التفاصيل الدقيقة التي أعيشها.
لم تجرني رياح سفني إلى الولايات المتحدة بمفردي من قبل، رغم استقراري بها لسنوات لا بأس بها مع والدي أثناء عمله، ولكن مغامرتي الصغيرة هذه استغرقت شهرا، بين ثنايا خمس ولايات متناثرة في كل الاتجاهات الكونية الأربعة الرئيسية، صبغت على الرحلة أحداث دراماتيكية و ميلودرامية، لذا سيكون الفصل الرابع من تحفتي مؤلفي " الجامع الوجيز في غرائب أسفار القرمتي " مكونة من أوراق و مذكرات مختلفة، لن تكون متناسقة أو متكاملة، بل مواقف متنوعة بأسس مختلفة، قصيرة،عميقة،مكثفة.
بداية المتن :
وسط عاصمة ولاية نيفادا اكتشفت العرافة بين عروق يدي اليمنى أني سأشقى في حياتي لا محالة، بادرتها بتساؤلي عن أي شقاء تقصده لعابر سبيل مثلي، لم يجد في موطنه منزلا، زافة إلى مسامعي قرب لقائي بها، موضحة عدم تمكني هذه المرة الهروب.
لم أجد في وجه العرافة أي دلالات "مايكرويه"* يدل على مزاحها، سألتها مجددا هل تعرفت عليها من تعاريج خطوط يدي المتشققة من آثار ضرب استاذة اللغة العربية و قلمي؟ ، فلم ترد، وبعد تنهيده أقلقتني استرسلت قائلة " إن أجبت على تساؤلاتك فلن تكون مفاجأة، ولن تصدقني"، أخذت بضعة دولارات كنت أخبؤها للحاجة إلى يدها اليسرى، إلا أنها أفلتت بيدي اليمنى، قلت " يا إمرأة عن أي شقاء تتحدثين وأنا أكثر الأفراد راحة للبال، اكتفت بإبتسامة"، و قالت " ستعرف قريبا".
في طريقي إلى الفندق لم أتمكن إزالة أغنية خالد الشيخ رحلة الغجر عن بالي، كيف لكاهنة أن تفاجئني في الخامسة و النصف فجرا، وعندما طلبت منها بالمزيد من التفاصيل من باب تقصي الحقائق و الفضول أن تمتنع عن الإجابة، أبقاني ذلك الحوار القصير صاحيا طوال الليلة، أحدث نفسي عن فرضيات وقوع صدى كلامها واقعا.
بدأت أعتب على قريني الذي فضح أمري أمام إمرأة لا يعرفها ، في ولاية يعيش سكانها بحثا عن الفضة في صحراء يشقها أعمق نهر و بحيرة في الولايات المتحدة.
هل كذب المنجمون ولو صدقوا؟
-- أكتوبر2009
*المقصود بالمايكرويه بعلم المايكرو سايكولوجي، وهو أحد فروع علم النفس الحديث