Friday, April 9, 2010

إلى

إلى الإله،


إنك الوحيد في هذا الكون الذي خلقته بيديك ذات يوم تعرف ما في الصدور و الأفئدة، خلقتني كما خلقت غيري من نطفة، طين، ثم سويتني رجلا، علمتني الأسماء كما علمتها جدي أدم، أنزلتني من ملكوتك إلى الأرض، لأسباب أجهل معظمها سوى أن جدتي حواء أغواها الشيطان الذي خلقته من النار، واقتضمت ثمرة من تلك الشجرة، و التي من المفترض أن لا تمسها بسوء، ولكنها فعلت على أية حال، كل ما عرفته من مطالعتي المستمرة لدياناتك التي أنزلتها على عبادك خلال الأزمنه المختلفة أنك وجدتني لعبادتك و تعمير هذا الكون بمجراته الضخمة، بفضائه الواسع، و مع هذا فإنك تملك كل مفاتيح المعرفة و العلوم، و لم تزودتني بعلمك إلا قليلا.

الفؤاد الذي خلقته كما خلقت كفة يدي الطينية هذه، يعرف تمام المعرفة إن هناك المئات من الأولوف في العالمين يؤمنون بك و بوجودك، يدخلون في دينك مع كل دقيقة و ثانية، يؤمنون بالإله بالصفات التي وصفتها نفسك، في أسمائك الحسنى بعزتك و جلالتك، إلا إنني لست من ضمن هؤلاء، لم أرغب أن اتبع ديانة أسلافي، أتبع أساطير الأوليين، لم أرد أن أتبعهم كما أتبع قوم نبيك إبراهيم أجدادهم، عبدوا أصناما لا تنطق، لا تتحدث، لا تعطي إشارات لوجودها، إلا أنهم مقتنعين بأن تلك الأصنام هي أنت، سبحانك تعاليت عما يشركون، لم أرد أن أدخل في دين لم أقتنع به، تلقيت علومه فرضا، وليس اختيارا،أردت أن تهديني أنت إلى سراطك المستقيم، الذي أشرت إليه في نهاية أول سورة في قرآنك الكريم المنزل، والتي نبدأ بها صلاتنا في مقابلتنا إليك خمس مرات يوميا، والتي نختمها دوما بـ آمين.

ليس هناك مجالا للنفاق، وأنت يا رب العزة أنزلت سورة كاملة أهديتها للمنافقين، علمت نبيك بأمرهم، و فضحت أعمالهم، على الرغم من نزول تلك الآيات و السور لآلاف السنين، إلا أن أطباع تلك الفئة لا زالت محافظة على نفسها، بصفاتها البغيضة، ليس هناك مجالا لأنافقك على ما أنت أكثر دراية فيه، كل ما أردته، أن تكون هدايتي إلى دينك عن قناعة، عن ثقتي بك، أن أجد الطريق إليك بأي ثمن، فأنا إنسان خلقته، لم تواجهني بنبي أصدقه، لم أواجه رسولا يقنعني بك، لا أمتلك حيلة لأجدك سوى في الكتب التي أنزلتها على عبادك، بعضها المحرف، و الآخر مجرد كلام و معاملات، سوى قرآنك الذي أنزلته، و الذي وعدت على صيانته من تحريف أيدي الكذب و النفاق.

أردت أن يكون إسلامي إليك، و هدايتي لدينك مماثل لنبيك موسى و أخيه هارون، عندما اعتلى الأول ذلك الجبل، باحثا عن شيء ليطمئن قلبه على أنه على حق، لم أرد أن أكون مثل أتباعه، الذين غلفت قلوبهم المريضة و زدتهم مرضا، أشركوا بك بنعجة ذهبية، أشتروها من السمرائي الأخرق، أراد أن يتاجر على حسابك.

إلهي، أنت الوحيد تعلم مدى شعوري بالألم و الأسى على فراق الكثيرين من حياتي، عبدالله الذي قبضت أمانته في ١٩٩٩، و خالد الذي رحل بعد نطقه الشهادتين في حادث مروري مأساوي، أما عني.. كدت أن تقبض روحي في ليلة الجمعة، ولا زلت أجهل لماذا لم أكن في تلك المركبة، تراجعت فجأة من النزوح من منزل سالم البحري إلى المدينة.

أردت ليلتها الرجوع إلى المنزل بشدة، ولكن لا أعرف لماذا لم أصعد المركبة مع يحي، الذي قبضت روحه في حادث مأساوي، أصطدم ليلتها في " صبة " حديدية في طريق الملك فهد، انفجرت ماكينة المركبة، لتلتهم النيران جسده، و أثنين من معه، من المفترض أن أكون أنا رابعهم، ولكن سالم نهاني من الرجوع إلى البيت ليلتها، و أطعت كلامه، لأنه بمثابة أخي الأكبر.

إلهي، لا زلت أشعر بحسرة و حرقه بالقلب كلما تذكرت تلك الحادثة، حلمت، وأنا لست من الذين يحلمون أبدا،بـ يحي، في لحظاته الأخيرة، النيران تلتهم جسده و بدنه، الأبواب موصدة، و النوافذ معطلة،حبيس بين النيران، يعلوا الصراخ، ولا أحد يستطيع الاستماع إليهم، وأنا عاجز عن فعل أي شيء، أمام تلك المركبة، أمام ذلك الحادث، كل ما رأيته بعد سماعي بالخبر، بقايا المركبة المحطمة كليا، و عظام متفحمه متناثرة.

إلهي، حشى.. لست أنا من يتطاول عليك بالحديث، أو بالقول، بل على النقيض، و أنت الذي تقدر ولا أقدر، تعلم و لا أعلم، وأنت علام الغيوب، أنت في غنى عنا جميعنا، ونحن الذين بحاجة إليك، فأنت الغني، الجبار، المتكبر، الخالق، المصور، يسبح باسمك ما في السموات و الأرض، آمنت بك.

إلهي، في الرحلتين الأخيرتين إلى بيتك العتيق، و ديارك الآمنة ...


نهاية الصفحة الأولى من مذكرات مكة الثانية*

    مارس ٢٠١٠

Wednesday, April 7, 2010

يوم



هناك أمور تحدث في الحياة لا تجد لها المبررات لوقوعها، ربما وقوفي هنا أمام سور منزل جدتي هي إحداها لا أعرف كيف وصلت إلى هنا، كل ما أتذكره إني " شغلت " محرك المركبة، أمام منزلنا، وضعت إحدى اسطوانات محمد عبدالوهاب، ووجدت نفسي أمام المنزل الذي تربيت فيه، ومحمد عبد الوهاب يشدوا أغنيته " الجمال و الصبا".

قَتَلَ الوَرْدُ نَفْسَـهُ حَسَداً مِنْـكِ
وَألْقَـى دِمَـاهُ فِـي وَجْنَتَيْـكِ
وَالفَرَاشَـاتُ مَلَّـتِ الـزَّهرُ لَمَّا
حَدَّثَتْـهَا الأنْسَامُ عَنْ شَـفَتَيْكِ
رَفَعُـوا مِنْـكِ للجَمَـالِ إلَـهاً
وَانْحَنَوْا سُجَّـداً عَلَى قَدَمَيْـكِ
الأخطل الصغير( بشارة خوري)ا

في الآونة الأخيرة لم يعد لعقلي و باطنه القدرة على التمييز بين الواقع الحقيقي الملموس و السراب، أو بين ما يثيره الخيال و الذكريات المبثوثه باستمرار أمامي أخيرا، بإمكاني القول إني أعاني من ازدحام فكري فوضوي نتيجة امور كثيرة، لا أستطيع أن أوجه اصبع السبابة إلى سبب، حالة السهاد، والتي أعاني منها منذ صغري نقلتني الليلة من منطقة كيفان إلى " برندة شقتي " بمدينة القاهرة.

حتى لحظتي هذه وأنا لا أعرف السر الذي يكمن وراء جرجرة الأغاني القديمة لذكرياتي، أو طبيعة ارتباطها الوثيق بالعقل الإنساني،أجد في كل أغنية غنيتها في شرفتي ذكرى، هنا غنيت مع جسوم " الشنقيطي " أعذب أغاني فايزة أحمد حلاوة، لا مش أنا يا روح قلبي، و في تلك الزاوية تغنينا لجوليا بطرس " البحر الهادي"، و على ذلك الكرسي التقطت أول رسالة إعجاب من بنت الجيران.

تختلف سهرتنا الأسبوعية مع كل فصل دراسي جامعي، حسب المواد المدرجة على ذلك الجدول الأخضر الكريه المذيل بتوقيعنا، وكأنها - الورقة - شهادة إقرار و تعهد منا بموادنا الدراسية، عقد قران لفصل دراسي كامل ١٨ أسبوع من الالتزام الكامل، ولا أعني أني أكره الدراسة، وإنما في الحقيقة إني أعشقها لدرجة الجنون، بل كنت " بو قليب " أحب الدراسة، خاصة مواد تخصصي، ولكن في لحظتها كانت الأمور مختلفة، و " غربة " النفس أثرت سلبا علي.

أمطار الكويت هذه أرجعتني إلى أجمل فصل دراسي قضيته في الجامعة، كنت مع صديقي الشنقيطي في غاية الشقاوة، أتذكر واقعة مهمة اتهمت على إثرها أنا و الشنقيطي بإزعاج الجيران ليلا، الشكوى قدمت لاتحاد الملاك كان ورائها العم بطرس و صديقه البطرياك اللعين قسطنطين ، وهم جيران يقطنون الدور السابع، بينما أسكن في الدور الثالث، أي أربعة طوابق عمودية تفصلنا، و كانت فحوى الشكوى، إننا أزعجنا و أرقنا منامه، بيد أنه لم يشتكى على أحمد صاحب المقهى و بياع الكبدة برائحتها " المنتنة " التي تصبغ ملابسنا باستمرار، ولم نتمكن من نشر غسيلنا في ذلك الجانب من الشقة بسببه، " مالقى غيري أنا المسكين!"

ولكن دهاء صديقي الشنقيطي العظيم الذي دعمني نفسيا و معنويا، مكني من إقناع اتحاد الملاك بحجتنا، أننا أقدم سكان العمارة، و لم نزعج أحدا، ولو تقدموا الجيران من حولينا في طريقة ودية لتوقفنا عن فعلتها على الفور، و بينا أن العمارة المقابلة لنا يطلبون منا غناء أغاني لعبدالوهاب و علي الحجار في بعض الأحيان!، و بعد المداولة الأولى، حفظ اتحاد الملاك الشكوى، وجدد الثقة بنا، ولكنهم أشاروا إلى أننا ربما قد نضطر إلى إيقاف نشاطنا الفني غير المحترف، إن جاءت شكوى ثانية من الجيران، وحتى انقضاء فترة دراستي لم يتقدم أحد بشكوى.

الطابق الثالث، والذي أسكن فيه مهجور تماما باستثنائي أنا الطالب المغترب الوحيد، ولكني احتراما للاتحاد تعهدت بما أرادوا احتراما للجميع، لذلك نقلت السهرة اللطيفة الأسبوعية إلى البرندة الثانية القديمة، و المقابلة لبقالة العم فكري!، في الحقيقة لم تكن أصواتنا تزعج أحد لأننا كنا نراعي الذوق و الأدب، ولكن بالإمكان القول أن أصواتنا لم تكن مزعجة، وكان في المستوى المعقول العادي، بإمكان العمارة المقابلة لنا سماع دندنتنا.



بينما ينشغل فكري في تلك الذكريات يدنوا صندوقي الخشبي مني، يطلب مني أن أخرج ما فيه من أوراق، لأتفاجئ بقصاصات ورقية بتلك الفترة، دفتر مركبتي المرورية، والدي عبد الله القرمتي، أراد أن تكون تجربتي في الغربة مميزة، أراد أن أشعر بالاستقلالية و المسؤولية في آن واحد، أشترى لي أول مركبة في حياتي، وبذلك فإني اعتمدت على نفسي حتى في وسائل المواصلات،


أتذكر عندما وصلت مركبتي إلى ميناء السويس، أوضح أبتي قائلا " لم تمض في الكويت الوقت الكافي لتتعلم قيادة المركبة، إلا أنك ستتعلم هنا، بين هذا الازدحام الغثيث، وأنا أثق بقدرتك على القيادة،"، بينما أجبته ضاحكا " لا تخاف علي، ترى ولدك يهدد مايكل شوماخر بحلبته في ميلانو في عقر داره بعد!”، استلمت المركبة، وإلى اليوم لم أتعرض لأي حادث مروري، و يعود الفضل إلى خبرات أبتي القرمتي في القيادة.





الورقة الثانية و الثالثة متعلقة بمادة الترجمة الإعلامية، و أود أن أذكر أن الدكتور محمود مصطفى من أكره الشخصيات التي قابتلها في حياتي، متعجرف، يظن أنه أول من توصل إلى نظرية إختراع أمواج الكهرومغناطيسية وذبذبات الإذاعية قبل ماركوني و آرمستروغ.


اعتاد في كل محاضرة أن يسجل الغياب يدويا، على الرغم من أن فصلنا لا يتعدى الخمس طلاب، إلا أنه يعد الغياب يوميا، لا زلت أتذكر حادثة طردي مرتين من المحاضرة، لأني لم أحضر معي بطاقتي الجامعية في مرة من المرات، ولم أكن أحمل حقيبة لحمل كتبي الدراسية في مرة ثانية، حتى أنه أظهر علنا كره للكويت و عشقه للدكتور مصطفى بكري، خلال محاضرته داخل أسوار الجامعة ، أعترضت بطبيعة الحال على ما قاله الدكتورين في تهجمهم غير المبرر للكويت بطريقة غير لائقة أخلاقيا، و نحن في حرم جامعي محترم.

كرس الدكتور كراهيته لي وأراد أن " يسقطني " في المادة الساذجة هذه باستخراج المفردات و الاختصارات للمصطلحات الإعلامية الصعبة و التعجيزية، والتي حتى وقتنا الحالي لم استخدم منها واحدة في حياتي المهنية، أود أن أوضح إنني كنت من الناشطين سياسيا نوعا ما في الجامعة بين الأصحاب، ولكن الله هداني و ابتعدت، و تركت آرائي لنفسي و للمقربين فقط منذ عامي ذاك.


تمكنت من الحصول على B+ في المادة من ذلك الدكتور " النحيس"، المضحك في الأمر، إننا أصبحنا أصدقاء بعد ورشة نقاشية محورها " العرب و العدوان الصهيوني، الكلمات و المصطلحات،"، والتي اتفقنا لأول مرة في التاريخ منذ صلح الحديبية و مؤتمر مدريد الفلسطينية الإسرائيلية، أن وسائل الإعلام العربية تستخدم كلمات و مفردات غير لائقة لشهداء الفسلطينيين، مثلا بقولهم " سقط ٦ شهداء"، بينما في الحقيقة أن الشهداء لا يسقطون أبدا، بل على النقيض، و نطق العواصم و المدن الإسرائيلية بالأسماء الإسرائيلية مثل أورشليم و ترك المدن مثل مدينة القدس، و التأكيد على القدس الشرقية عربية، و غيرها من الأمور الفنية، وبعد أن اتفقنا أصبحنا أصدقاء إلى يومنا هذا، و بالمناسبة أرسل إلي رسالة إلكترونية قبل أسبوع!”.

أما الورقة الثالثة هو امتحان لمادة الصحافة المتخصصة وهي أصعب المواد و أطولها دراسة، كان الدكتور رضا عكاشة من المرضى النفسيين الطيبين " أوي! “ ، لا يعرف الشرح بطريقة سهلة، بل يعقد الأمور، حتى جعل المرجع الدراسي المكون من ٤٠٠ صفحة أسهل من حضور محاضرته التي تستغرق نحو ثلاث ساعات و نصف الساعة أسبوعيا، متابعة حديثه صعب جدا، و الانشغال في المرجع أسهل بكثير!، ولكنه طيب القلب، يحب المثابرين في العمل.


أكن له محبة كبيرة لكونه أحد الذين آمنوا بي، و ألحقني بالمجلة الجامعية حتى تمكنت أن أكون المحرر الأول في المجلة لمدة ثلاث سنوات متتالية، ونلت مكافأة عن تحقيق صحفي عن منزل الشاعر أحمد شوقي، وعلاقته بالموسيقار محمد عبد الوهاب.

--

سؤال الأسبوع.


أغنية أحببتها فعلا منذ القدم، هي لطلال مداح عنوان الأغنية " زمان الصمت ".


ما أثار فضولي هو مقطع الأخير من قصيدة الشاعر بدر بن عبد المحسن يقول فيها


حبيبي.. كتبت اسمك على صوتي.. كتبته في جدار الوقت

على لون السما الهادي

على الوادي

على موتي .. و ميلادي!




سؤالي .. كيف يكتب الإنسان اسم حبيبة الفؤاد على الصوت.. أو على جدار الوقت .. على لون السما الهادي على الوادي على الموت و الميلاد؟ .. لدي محاولاتي .. ولكن متشوق لسماع ما لديكم.


Saturday, April 3, 2010

القرمتي الصغير و آلة الزمن



*كتب هذا النص تحت تأثير دواوين الراحل محمود درويش الشعرية و أغاني خالد الشيخ

عندما كنت صغيرا و جميلا، كان خيالي الخصب يوجهني دائما إلى التفكر و التدبر في شؤون الدنيا، أنظر باستغراب ممزوج بالفضول للأشياء من حولي، كل ما أردته عندما كنت في العاشرة من عمري أن أنشئ أو أخترع شيئا ينسب إلي في المستقبل، كما هو الحال مع النظرية النسبية لعالم الرياضيات الخارق آلبرت أنشتاين، أو نظرية الجاذبية الأرضية لأسحق نيوتن، أو أن أكون بمقام صاحب الخطوة الأولى على سطح القمر الفضائي نيل آرمسترونغ.


أولى اختراعات القرمتي الصغير كانت محاولة لبناء آلة الزمن، والتي عن طريقها سوف أتمكن من امتطائها و الرجوع بدولاب الزمان إلى الوراء، كانت القصص المأثورة عن عصور الظلام الأوروبي، الأساطير اليونانية، و حكايات العرب في صقلية و الأندلس تستهويني، أردت أن أتعرف على الحجاج شخصيا، أن أحضر إحدى جلسات زرياب الغنائية، أو أن يبتسم لي الحظ بلقاء القائد البربري طارق بن زياد وجها لوجه، لأعرف سر اختفائه عن التاريخ بعد وصول قافلته مع أبو موسى الأشعري إلى دمشق، و ما هي الأحداث التي وقعت بعد وصولهم، و ما هو سبب اختفائه المفاجئ عن التاريخ، بعد هذه الحادثة، فهو لم يكتب عنه أي شيء لاحق بعد وصوله إلى دمشق!

أتذكر إنني لجأت إلى والدي عبد الله القرمتي لمساعدتي في بناء آلتي الزمنيةـ حملني وقتها وأجلسني على حضنه، ابتسم و قال " أتريد حقا أن تذهب إلى ذلك الزمان؟" ، أجبته " نعم يا أبتي*”، فقال لي " أنه زمن قاسي، لا مركبات تسير فيه، ولا تكييف كهربائي، لن تجد بين واحات الصحراء أية فروع لأرنب الجائع، أو حتى ومبي!”، أجبته بكل ثقة " عاادي، أكل تمر و أشرب لبن مع إني ما أحبه!”، بعدها وافق على مساعدتي، و طلب مني تحديد مستلزماتي الضرورية.

بالطبع جميع المحاولات السابقة لم تحصد أي نتائج إيجابية، لأني لم أستطع التوصل للنظرية العلمية لإثبات إمكانية حدوث مثل تلك العملية، إلا أن خيالي الواسع تكفل بتحقيق ذلك، والدي الذي كان شاهدا على كل محاولاتي، لم يمنعني من المحاولة، بل دائما يقول لي، إذا أردت شيئا فأسعى إليه، ولا تيأس أو تقنط، و استمر في تحفيزي، ونصحني بعدها أن أحاول أن أحتفظ بالذكريات في صندوق صغير، وبذلك فإني سأصل إلى نظرية علمية جديدة لتجميد الزمن في وقت محدد، وهي حقيقة علمية بإماكني عبرها أن أتوصل إلى النظرية الأساسية في العبور الزمن و التنقل عبر أثيره.

الحديث عن الذكريات السالفة الذكر هاجمتني فجأة بلا مقدمات، عندما وطئت قدماي على دكة الحديقة المقابلة لمنزل جدتي، وهي ذاتها التي شهدت ولادة آلة الزمن، و اليوم تحتضني أشجارها اشتياقا لذلك الزمن البريء،المؤكد أن محاولاتي لبناء آلة الزمن فشلت في الظهور، إلا أنني اليوم أمتلك صندوقا له وظائف مماثلة، بل أعتبر نفسي ناجحا في تحقيق ذلك.

صندوقي الخشبي، هو بمثابة آلتي الزمنية، أنتقل عبرها إلى الوراء ابتداء من يوم مولدي، أحتفظ في بطنه جميع الصور الفوتوغرافية الشخصية، سواء المتعلقة بيوم مولدي المجيد، رحلاتنا العائلية الصيفية، و فضائح رحلات القرمتي منذ أيام الشباب و الهوى و الصبا، وصولا إلى الأيام الجامعية خارج البلاد إلى وقتنا الحالي.

وبما إني من عشاق الكتابة و القراءة، فإني أحتفظ في صندوقي بعض الكتب المميزة بعضها موقع من قبل مؤلفيه، و البعض الآخر إهداءات خاصة من أعز الأصدقاء، فضلا عن بعض العملات النقدية لبعض الدول النائية والتي زرتها، بالإضافة إلى بطاقات تعريفية تحمل إسمي " قرمت القرمتي "، و بعض بطاقات الخاصة للفنادق التي سكنت بها، و بعض الأوراق التي دونت عليها أثناء سفري المتواصل و المستمر.

عندما أشرع في فتح صندوقي الخشبي، فإن الزمان حولي يتوقف، يتجمد، لا أسمع أو أرى أو حتى أسمع من حولي، أكون في عزلة كاملة عنهم، أجلس على الأرض، أتصفح مذكراتي الشخصية، ربما من الأشياء الحقيقية التي لا يعرفها الكثيرين أنني بدأت في كتابة مذكراتي اليومية منذ سن مبكرة.

عندما كنت في العاشرة من عمري أهداني والدي مفكرة صغيرة الحجم، لم تتجاوز صفحاتها عن المائة، بدأت أقلب المفكرة ظنا مني أنها تحتوي على شيء مثير للاهتمام أراد والدي أن أطلع عليه، إلا أنني ذهلت عندما وجدت المفكرة فارغة، عندها سألت والدي باستغراب، " أبتي أبتي .. أظن أنك أخطأت .. إن هذا الكتيب فارغ تماما من الكلمات، هل الكتاب سحري؟، وينبغي علي ترديد عبارات معينة لتظهر الجمل و الكلمات من حيث لا أحتسب؟ "، عندها جلس والدي بجانبي، وأخرج قلمه الثمين من جيبه العلوي، و بدأ في كتابة أعلى الصفحة الأولى، الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن " مقاطعة كولومبيا "، اليوم: أغسطس، الخامس عشر، ١٩..، بعدها علمني أن أدون ما أعيشه و الأماكن التي زرتها، و إنطباعاتي الشخصية.


ونمت هذه العادة منذ تلك السنة إلي يومي هذا، دونت في البداية ما طلب مني والدي عبد الله القرمتي، إلا أن كتاباتي كانت في اللغة الإنكليزية،لأسباب عديدة منها عدم إلمامي بالقدر الكافي باللغة، و الحقيقة المخجلة إنني تعلمت اللغة العربية في وقت متأخر، بعد الغزو العراقي تحديدا، واليوم أتحدث العربية ببراعة.

بإمكان القول أن كتاباتي في اللغة العربية نضجت كثيرا في السنة الأخيرة من الثانوية، خاصة إنني تميزت في حصص اللغة العربية، لا سيما في اختبارات التعبير، كنت الوحيد الذي يحصل على الدرجة الكاملة في ذلك الاختبار تحديدا، حتى إنني من الطلبة الذين حرصوا على حفظ القصائد المدرجة في المنهج الدراسي، وخاصة تلك التي تخص شاعري المفضل علي السبتي، والذي تعرفت عليه شخصيا لاحقا، وتبين أنه صديق حميم لجدي النوخذة.

عندما أتصفح الأوراق التي يحتويها صندوقي الخشبي، يبدأ الفؤاد بالحنين إلى الماضي، تستعرض الذاكرة الذكريات السعيدة و المحزنة، عندها لا يمكني أبدا سوى الشعور بالحسرة على تلك الأيام التي مضت، كم تمنيت لو أن بإمكاني الرجوع مجددا إلى ذلك الطفل، أكبر همومة لعبة يبتاعها أبوه من " نحن و الأطفال"، أو " صوغه " مغلفة يأتي بها والده من إحدى سفراته أثناء دراسته الطويلة في الولايات المتحدة.

أن أركض مسرعا إلى أحضان والدي مجددا عندما يصل إلى المطار من بعد رحلاته الطويلة، ليحملني مجددا على أكتافه، أن يقص علي حكاياته مع الزمن مجددا قبل النوم، أن يصحيني من سباتي الطويل في صالة المعيشة كل ليلة إلى فراشي، أن يكرر علي عباراته الشهيرة المعتادة كل يوم عندما يوصلني إلى بوابة المدرسة، " حط بالك من الشارع"، لأردد عليه " أي شارع يا أبتي أنا أمام بوابة المدرسة؟"، ليردد جملته مجددا " حط بالك من الشارع" يضحك ضحكته الجميلة، أغلق باب المركبة، ولا يغادر إلا عندما يطمئن أني دخلت المدرسة بسلام.

في صندوقي الخشبي الصور الفوتوغرافية تصبح افلاما سينمائية، أرى كل ما في هذه الصور يتحرك، في هذه الصورة أنا في كامل أناقتي، البدلة السوداء الراقية، و ربطة العنق السوداء، بجانبي أخي الأكبر، و ابن خالتي الأرعن ، بينما أنفخ على شموعي الخمسة، عندها ظننت إنني " بروس وين "، وهذه الحفلة ليست سوى عادة أسبوعية، أبذخ فيها بجنون، أما الهدايا، فكانت متنوعة، منها الملابس والألعاب، و بعض الرسوم الكرتونية.

في تلك الليلة أعلنت تمردي و عصياني المدني على البيت، رفضت النوم إلا ببدلتي هذه و ربطة عنقي، أغضبت والدتي ليلتها، إلا أن تدخل والدي السريع أخمد المسألة، و سمح لي بذلك لليلة واحدة فقط!، نمت، ولكنه أيقظني فجرا على سؤال غريب " هل تريد الهروب الليلة ؟ "، سألته بالطبع إلى أين يا أبتي؟، قال لي سوق السمك! سنفاجئ أمك ظهرا بطبق غداء سوف أعده!، تسللنا إلى سوق السمك، لنشتري السمك في المزاد الأول الذي أشهده و كسبناه.

أعد والدي طبق سمك مميز من دون أي مناسبة، جلسنا خمستنا على طاولتنا المعتادة وسط المنزل، يعد والدي الخضرة و الطبق الرئيسي من السمك الجميل، و اللحم المشوي على طريقته الخاصة، الجميع أصابته التخمة بعد تلك الوجبة، التي تضمنت " حواتيت " مليئة بالضحك كالمعتاد، والأهم من ذلك أنه صادف بلا مناسبة اليوم التالي لعيد ميلادي الميمون


هل تغيرت كثيراً؟

ما تغيرت كثيراً

عندما نرجع كالريح الى منزلنا

حدّقي في جبهتي

تجدي الورد نخيلاً والينابيع عرق

تجديني مثلما كنت صغيراً وجميلا


يقول البعض أن الوقت كفيل بتغير الإنسان عما كان عليه، ولكني لم أتغير قط عما كنت عليه، لا زلت قرمت بقلبه الكبير، لهفتي للهدايا أو " الصوايغ" موجودة، تنهيدتي بقيت كما كانت، عشقي لوالدي و قضاء الكثير من الوقت معه لا تزال عادة راسخة فيني، لم أتغير قط.

و إنما في الحقيقة كبرت و نضجت، ولا زالت بعض الملامح الطفولية ملاصقة بي، أنا القرمتي الصغير، لم أتغير أبدا.. لم أتغير.. بداخلي نفس الطفل الذي لعب بين أسوار هذه الحديقة قبل أكثر من ١٥ سنة، و نفسه الذي يقف اليوم أمام تلك الشجرة التي تسلقتها في الصغر، كل ما تغير.. هو إنني كبرت، ولكن بقي فؤادي الضامي نفسه، لم يتغير.. لم يتغير .. لم يتغير..


أهمس إلى صندوقي الخشبي .. أنا قرمت، تذرف بعض الدموع على صدره، يا ليت كل الورق التي بداخلك تستطيع أن تحولها إلى حقيقة، إلى واقع، ولكن تبقى يا صندوقي... آلتي الزمنية و إن لم يصدق الآخرين بذلك.


** الصور التالية هي مجموعة من أثمن مقتنياتي: ( تم التعديل على الصور نظرا لخصوصية الإهداء لذا انقضى التنويه)


الكتاب الأول لشيخ الصحافيين الأمريكيين ستيفن روبترز قابلته في العاصمة الأمريكية واشنطن بالصدفة، شربنا القهوة، و تبادلنا الضحك، أهداني كتابه قبل صدوره في المكتبات، تميز ستيفن بالعديد من التقارير الصحفية في أوروبا، وكان مدير مكتب اليونان، كما تميز في تغطياته المتميزة لجلسات الكونغرس الأمريكي، و أنا كنت من أشد متابعي النيويورك تايمز.


الكتاب الثاني لعميد الصحافيين الأمريكيين بوب وود ورد، الرجل الأول وراء تنحية الرئيس الأمريكي نيكسون، قابلته في إحدى الزيارات عند صديق أمريكي مشترك، وقع الكتاب، قال لي لن أكتب إسمك إن قررت بيعه فإنه سعره سوف يرتفع جنونيا! ضحكنا جميعنا على تلك الدعابة المقصودة! ولكني وعدته إنني لن أبيع الكتاب بل سأورثه إلى أبنائي في المستقبل.


الثالث هو آخر كتاب لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة الست مادلين أولبرايت هانم!


أهدتني الكتاب عشية صدوره في الأسواق، كانت في غاية اللطافة معي، عندما علمت إنني من الكويت، سألت عن حالنا بعد عملية " تحرير العراق "، تفاجأت عندما قلت لها إن العدوى الطائفية و الحروب السياسية انتقلت إلينا من الشمال، كما استغربت من خوف الكويت مجددا من الجيران في الشمال، و قالت إنه ينبغي " عليكم "، أن تسقطوا الديون قبل أن تلغى إجباريا، وأن هناك من سيدفع في هذا الجانب من " أصدقائكم"، كما أنها وصفت حرب العراق " كارثة " في الاستراتيجية الخارجية الأمريكية!


*أبتي : هي كلمة أعتدت أن أسمي أبي بها منذ نعومة أظفاري، ولا زلت أقولها في بعض الأحيان .




*خالد الشيخ - إلهي أعدني

كلمات محمود درويش

ألحان : خالد الشيخ