Thursday, July 18, 2019

صورة فوتوغرافية


 

******تنويه******

تمت الترجمة والدبلجة للنص الأصلي في معامل أنيس عبيد في القاهرة، جمهورية مصر العربية.

-1-

10 مارس 1917.

 

إلى ابني الوحيد فلذة كبدي،

ربما تكون هذه السطور هي الأخيرة لنا في هذه الدنيا، دخل الثوّار مدينتنا بيتروغراد -تحولت لاحقاً إلى سان بطرسبرغ- وعاثوا بها فساداً، تحولت المدينة الارستقراطية إلى ثكنة عسكرية، وانقلبت ساحاتها الواسعة إلى مقرٍ للآليات العسكرية المحترقة، وأرضا خصبة للتصفية السياسية الدموية بعد الحصار المفروض عليها.

كنّا أنا – ماشا (رَوحِيّة)- وأختاي آنستاسيا (صافيناز) وكاترينا (نيللي) نستمتع بالليالي برؤية النجوم اللامعة في سماء المدينة الصافية نتجول ناحية السكك الحديدية في وسط المدينة لأننا نعشق المرور على شارع "نيفسكي بروسبيكت"، وفي كل زيارة كنّا نتقمص أدوار شخصيات دوستويفسكي الذي استلهمها في طريقه من وإلى هذا الشارع.

 ولكن يبدوا أن لعنة روايته "الإخوة كارامازوف" حلّت بنا الليلة، ولسوء الحظ اندلعت الثورة فجأة، ودبّت الفوضى ونحن نقضي بعض الحاجيات من السوق للمدرسة الداخلية التي تديرها عائلتنا منذ أكثر من خمسة عقود، وقررنا الاختباء في مقهى الثقافة.

نحمد الرب إننا تمكنا بعد ساعات قليلة من العودة إلى مدرستنا بسلام عقب أن عشنا لحظات عصيبة وحرجة تطايرت معها طلقات الرصاص فوق رؤوسنا.

يا ابني العزيز،

لا أعلم إن كنت سأكون على قيد الحياة لأشهد ميلادك الثالث الذي سيصادف بعد غدٍ، ولكني أريدك أن تعلم بأني منذ ولادتك اعتدت على الاحتفاء بك، فأنا أول من حملك وضمك بحرارة ورقة متناهتين إلى صدري، ولا زال عقلي حتى لحظة كتابتي هذه الرسالة يبث شريط ذكريات ولادتك، وكلي أمل أن تتفهم أن هذه المرة الأولى التي قد أجبر على الغياب والابتعاد عنك قسرياً، وأن الموت لم يكن يوماً اختياري.

كريستوف،

عندما تقرأ هذه الرسالة وتتمعن في الصورة الفوتوغرافية المرفقة والتي أقف فيها الأولى يمينا إلى جانب أختاي، لا أريدك أن تخدعك ملامحي الحادة، وأن تعتقد إني صاحبة قلب قاسي لم تعرف الحنيّة يوماً، فإن خلف هذه الملامح قلبا مرهفاً يعشقك ويهيم فيك، كنت أحملك وأغني لك أعذب الأغاني حتى تهنأ بالنوم، وأمنيتي الوحيدة في هذه الدنيا أن أشاهدك تنمو إلى أن تغدو كاتباً كبيراً مثل أبيك الذي فارق الحياة ولم يكتب له رؤيتك.

 

 

-2-

..اما تبقى من ذاكرة الحُب.

آنستاسيا (صافيناز)

 

قرأت ذات يوم للأديب الفرنسي ميشيل دي مونتين بأن " ليس من شيء ثبت شيئا ما في الذاكرة مثل الرغبة في نسيانه"، وفي موضع آخر يقول " لقد كانت حياتي سلسلة من العثرات التي لم يحدث معظمها".

لا أعرف كيف أقدّم نفسي إليك، أعلم إننا التقينا صدفة في إحدى حفلات القصر الشتوي السنوية، وأن رقصتنا الوحيدة التي جمعتنا على أنغام ديميتري شوستاكوفيتش بمقطوعته الفالس الثانية لم تكن بمحض الصدفة، إنها الإرادة الإلهية التي أرادت أن تجمع قلبينا.

على أنغام وإيقاع الموسيقى الراقصة هي المرة الأولى التي لم أختار أو أحسب فيها خطواتي كافة، وإني سلّمت نفسي إليك لتقودني إلى حياة أجمل وأرحب، تجاهلت قلبي المثقل بالماضي وعقلي الباطن الذين يحاولان أن يحاصراني بالتجارب السابقة المخيبة للآمال، ولكن رغبتي في السعادة التي نبض بها قلبي منذ أن مسكت أنتَ يداي ودعوتني فيها إلى تلك الرقصة أنستني كل شيء، ماضيي وكل الآلام التي أعقبت خيبات الأحباء والأصدقاء، أردت فقط أن اتلذذ بما ستهمس أنتَ في أذني وأناملك تلمسني.

البداية معك.. لم تكن عصيبة مثل كل البدايات التي عهدتها، ولأول مرة لم يعد يهمني من أين نبدأ، هل أقدم قدمي اليمني أو اليسرى في بداية هذه الرقصة، وفي ذات الوقت وجدت نفسي لأول مرة أيضا غير مجبرة على التحفظ بالحديث، ولم اكتف بابتسامتي العريضة، وربما لا تصدقني عندما أقول لك إن لقاؤنا هذا لم يكن محض الصدفة، فمشاعري هي التي جذبتك إليَّ طواعية لتطلبني لهذه الرقصة.

أريد الاعتراف بأن هذا الفؤاد الذي يدق بداخلي لم يعد يحتمل أي خيبات للأمل جديدة، وكان يعيش في اللهيب منذ لقاؤنا ذاك، وإني متطلعة إلى لقاء ثان وثالث ورابع لا ينتهي أبدأ معه قطار العمر.

ما سبق هو إحساسي عن أول لقاء جمعني بك يا زوجي الغالي، وأتذكرك بحرقة اليوم وأنا أعيش الذكرى السادسة لوفاتك، حاولت أختاي إقناعي للذهاب إلى المصور الفوتوغرافي، لنعيش تجربة جديدة لم نختبرها من قبل، أن تلتقط لنا صورة فوتوغرافية، لحظة يتجمد معها الزمن، وقلبي يتعصر شوقاً إليك، ويتمنى أن يسرقك من الموت لبرهة أجمد فيها الزمن معك، أو أن يفتك بي الشوق أخيراً لنجتمع سوياً مرة أخرى.

أترك هذه الرسالة على قبرك لعلها تصل إليك مشاعري بشكل أو أخر.. وأعرف أن أجمل رسالة أو قصيدة تلك التي تخرج عفوية دون أن نترك فرصة لحسابات الصدفة أو الغفلة.

 

 

 

-3-

ربِّ أعلم يقيناً أنك مستمعٌ إلى مناجاتي كل ليلةٍ، إلا أنه لم يعد بمقدوري بعد الآن أن أسيطر على ما يدور في عقلي من أفكار، فأنا في حالة شك، صمتك يا ربِّ على ما يفعله الظالمون في مدينتي جراء هذه الثورة التي بات ظاهرها خيراً، إلا أن باطنها شراً لا محال، فبأي ذنب يقتل الناس في الشوارع وتشرد الأطفال بلا ذنب؟

أدعوك يا ربِّ وأنا متكئة على قدمي وأتوسل إليك بأن ترسل لي أية علامة أو إشارة تدل على وجودك فعليا بيننا في هذه الدنيا، وأنك كنت مستمعاً إليَّ منذ أن اهتديت إليك مراهقة في السادسة عشر من عمري، كي أطمئن، لأتمكن من خدمة دينك وكل محتاج أجبرته الظروف إلى اللجوء لكنيستنا التي تحولت إلى ملجأ يخدم الفقراء والمغلوبين على أمرهم.

علمتني حياتي وأنا أبنة الثلاثين ربيعاً ألا أعلق آمالي على أي شيء في هذه الدنيا، فالكل في نهاية الطريق سيخيّب آمالنا بطريقة أو بأخرى، لذلك وجهت بوصلة قلبي إلى خدمة الرب ثم مجتمعي، تعلمت ألا أترك فراغاً في حياتي أو أن أفتح المجال لعقلي أن يتدبر في شؤوني.

وهبت نفسي إليك يا ربِّ بعد أن ابتليتني بالوحدة، فكانت تجاربي الذاتية هي أساس محاولاتي في فهم أعراض هذا الابتلاء، حتى اعتدت على أن أوسد رأسي يومياً على وسادتي المزعجة كي ينشغل عقلي بألم هذه الوسادة بدلاً من قلبي الفارغ، والذي أصابته أعراض الشيخوخة والصدأ من الداخل.

لست معترضة على نتائج هذا الابتلاء لأني في خضمها وجدت الرضا في حياتي، نذرت نفسي إليك يا ربِّ ولخدمة الناس، ابتسامات الأطفال والمحتاجين ترسم البسمة على شفتي كل يوم، وأنا التي شاخ بها الزمن فجأة من دون أن أشعر بالسنين والأيام.

ظننت إنك يا ربِّ هديتني إلى هذا الدرب لأكون أنا مثالا حياً لشخص أفنى حياته الشخصية لقضيتك العادلة. إلا إني وجدت ضالتي بعد سنوات طويلة، في لحظات اليأس والقنوط التقيته، لم أكن متيقنة أنه من الممكن أن أكون إنسانة يُعجب بها أحداً على الإطلاق، كانت غيوم الحزن فوق رأسي لعقود من الزمان، إلا أن غريغوري الذي كان حريصا على توصيل المؤونة الشهرية لكنيستنا أعلن حبه لي الليلة الماضية.

كنت أخشى أن تمتد هذه الغيوم وأن يدفع بها الريح إليه، وأن ينفّره هذا الحزن مني، لكني يا ربِّ لم أعرف حينها كيف تكون النيات الطيبة آثار قوية وجميلة، كنت أخشى أن أفسد أنا هذه الفرحة على نفسي وأخسره ولكنه في المقابل أصلحني وأسعدني.

 

Monday, December 4, 2017

سهيل...

قلت لأستاذي سهيل عبود.. أرواحنا أنا وأنت توأمان، نحن وحيدان في هذه الدنيا، جلّ ما أخشاه أن أموت وحيداً، وأن تفتقدني في أيام العطل لتجدني جثة هامدة في فراشي أو على الأرض منسيا.

كان حوارنا هذا في عيد الفطر من عام ٢٠١٠ في مكتبك، نلتقي في مقر عملنا رغم الإجازة وغياب جميع العاملين، كنت تحبذ هذه النوعية من الإجازات القسرية، كنا الوحيدون في هذه الدنيا.. كنت لي الأب والأخ.. نتقاسم وجبة الغداء ثم تحكي لي عن كتابك الذي لم تنهي صياغته منذ اكثر من ١٥ عاما فقط لأنك باحث همام تبحث عن الكمال في كل شيء.

مضت الأشهر حتى غبت.. افتقدتك.. ثم علمت بداخلي.. خشيت أن أزورك وأكون على حق.. ليست هي عادتك التأخر في المواعيد.. خشيت أن أزورك ثم يصدق حدسي.. ثم بعدها بدقائق علمت بخيانتك للعهد الذي قطعناه.. مت وحيداً وبقيت أنا حي.
لماذا؟


يناير ٢٠١٢.

معلمي سهيل هو أول من آمن بموهبتي.. صقلها.. شجعني.. وقف بجانبي..

رحمك الله أيها الماروني العنيد.

Saturday, October 14, 2017

بداية يناير في نهايته



صوت الموسيقى الصاخب يحيط بمن يجلس في الحانة، الجميع يحاول التجرد من الواقع  بتأثير الصهباء،  وبصحبتها يتساوى المجنون والمحب مع المحبط من أعباء الحياة، لا يمكن التنبؤ بدوافع من دخل الليلة ليحتفل برأس السنة الميلادية.


وعلى أعتاب السنة الجديدة، انشغل عقلي المترنح* في التفكير بشأن الأسباب الحقيقية وراء هذه الاحتفالات الدورية، وهل يحتفل الإنسان بقرب إنقضاء أجله؟، لاسيما إننا مع دخول كل عام جديد تزداد معه اضطراديا أعمارنا، ما يقربنا خطوة إلى قبورنا، أم إننا نحتفل بميلاد المسيح، وهو الذي لا تزال سنوات حياتة المؤثرة والغريبة مصدرا للجدل، حتى تفرعت الديانات، فهناك من عمّده إله وأشرك بالله، وآخرون يعتقدون –من العقيدة لا الاعتقاد- أنه لا يزال حيا رفعه الله عز وجل إلى السماء، إلى أجل مسمى.


أفكار عديدة تسلطت عليّ  وسط الاحتفال الليلة،  والتي لا أعلم إن كانت ستكون خيراً أو شراً، ولكني أبرقتها مذكراً بمعاهدتنا، والتي تجدد سنويا تلقائيا، ما لم يخطر أحد الطرفين الآخر قبل 15 يوما، وهو ما لم يتم، وفق بنود المعاهدة، ربما تكون هذه إحدى نوبات السنة الجديدة، وتسرب هذا الشعور العرضي الإشتراطي إليّ بالخطأ.


قد نحتفل هذه السنة لوحدنا، وفي نهاية الشهر سيحتفل الصينيون برأس السنة الميلادية، وفي هذه الاحتفالية سينطلق سنة (...)، وهي أكثر السنوات حظوظا، ربما سيعكس هذا على سنتنا الميلادية، لذا سأحاول أن أكون أكثر انفتاحا وتفاؤلا في هذه السنة التي تدعي الإيجابية.


هل (...) إن قلت إني رأيت فهد العسكر؟، وإني تشاركت معه في سيارة الأجرة؟، كانت وجهته إلى (...) المحاذية لناصية(...) بينما كان طريقي إلى فندق "الربعي"، مشورانا استغرق نحو 25 دقيقة، ظل صامتا طوال الطريق، وقبيل وصوله إلى محطته، سألته كيف تتعطل لغة الكلام كما وصفها في قصيدة يا جارة الوادي؟ ابتسم، وطلب مني أن  أجمع بدايات أبياته في تخميسه  للمتنبي عيد بأية حال عدت.

هل كان فهد فعلا؟ أحاول أن لا أخوض في التفاصيل.

*رنّح  أي رنّح للشيء – طالع معجم الوسيط.



يا عيد عدت فأين الروض والعود؟
وا لهـف نفسي وأين الراح والغيد
بل أين أحبـاب قـلبي والمـواعـيــد
قلبي أسيرٌ..... ورب البيت عندهم
قد حيل – وا حسرتا - بيني وبينهم
أين المواسون ؟ فاض الكأس، أين هم ؟
أواه .. ضاعف أحزاني... شرابكما
شتان ... شتان.. ما بيني... وبينكما
فخبـرانــي .... بحق الله ..... ربكما
يـالـتعـــاســـة لا الأوتــار تطربني
بشـدوهـا لا، ولا الأنغــام تؤنسني
فيا ندامـى .... أمنكم من يخبرني
الأمس كانت قطوف الوصل دانية
واليوم أضحـت لتعس الحظ قاصية
وضـــاع عـمـري وما حققت أمنيةً
يومي كأمسي وأمسي أسـودٌ كغدي
يا دهــر خفف كفى ما ذقت لا تزدِ
ويا رفاقي أعذروني إن نفضت يدي
فكم شكوت ولكــن لم أجد أحدا
يصغي فأبكي، وهل تروي الدموع صدى
وعشت لا أرتجي مـالا ولا ولدا
وعشت بين أنـاس لا وعـودهــم
تشفي غـلـيلا ولا تغني عهودهـم
عُمي وأطماعـهـم أمست تقودهـم
فهد العسكر
نيويورك ٢٠١٢
*مذكرة متروكة في المسودة منذ تلك الفترة

Sunday, June 30, 2013

في رحيل أم يوسف.




في إبريل الماضي فقدت أعز إنسانة في حياتي، رحلت جدتي أم يوسف بعد صراع سبع سنوات مع المرض العضال، قاومت وقاتلت من أجل الحياة، وفاضت روحها الطاهرة بعد أن التقينا جميعاً الليلة التي سبقتها، كانت بصحة وعافية قويتين، بسذاجتي وشدة فرحتي لم أستوعب أنها صحوة الموت إلا في صبيحة اليوم التالي.

أكثر ما آلمني إني لم أحظى بفرصة توديعها، أن أقبل رأسها ويديها وقدميها، وهي أم يوسف التي بذلت الغالي والنفيس في تربيتي، ومنحتني جلّ اهتمامها رغم تقدمها في العمر، مذ ذلك اليوم لم أجد نفسي قادراً عن الكتابة أو حتى الحديث عنها، عن أي شيء أكتب أو أذكر؟

أأذكر لقاءاتنا الصباحية قبل ذهابي إلى مقر عملي؟، أم تلك المكالمات الطويلة الأسبوعية طوال فترة غربتي، والنصائح التي قدمتها لي؟، وإزالتها باستمرار من خلال رجاحة عقلها لكل الآلام التي أصابت ضلوعي، يؤلمني كلما حاولت التعبير عن أم يوسف، فكيف أختصر سيرة إنسانة كانت على قيد الحياة والاكتفاء بكلمة "كانت"، كيف يتحول إنسانة حية ترزق إلى مجرد ماضي أو ذكرى عابرة؟

سيبقى آخر لقاؤنا جمعني بك محفوراً في عقلي، قبل أن يبدأ المرض اللعين في الانتشار، ويسلبك مني، كنت في ذلك الوقت في طريقي إلى المطار، واعتدت دائما على زيارتك قبل مغادرتي، طالب في السنة الثالثة في الجامعة، أحفظ كل كلمة من ذلك اللقاء، خاصة وصيتك الأخيرة لي قبل الوداع، ولا زلت متمسكا بتلك الوصية.

يتعصر قلبي كلما تذكرت تلقي خبر وفاتك في الثامنة والنصف صباحاً من ذلك الثلاثاء، وشريط الذكريات في طريقي إلى منزلك، لم أكن مستوعباً وأنا وخالي يوسف عندما حملناك إلى "المغيسل" إنها المرة الأخيرة التي سأراك فيها، ولم أتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة قبل إتمام مراسيم الدفن، فقلبي لا يقوى على الوداع.
اليوم فقط عرفت شعور اليتيم من بعدك يا أم يوسف.

إبريل 2013.

Thursday, June 6, 2013

في "حكم الدستورية"




الكويت تقع على أعناق المستشارون في المحكمة الدستورية، ففي السادس عشر من يونيو الحالي، ستفصل المحكمة في مدى دستورية المرسوم بضرورة وفق المادة 71 من الدستور من مجلس الوزراء، والذي غيّر بموجبه آلية التصويت، بحيث تم تقليص الأصوات الممنوحة لكل ناخب بلغ السن القانونية من أربع أصوات إلى صوت يتيم.

الحكم المرتقب صدوره، سيؤثر مباشرة في مستقبل السياسي للبلد، وأرى أن خطورة الحكم يكمن في منح مجلس الوزراء صلاحيات تفوق ما ورد نصاً في الدستور، إذ يصبح من حق مجلس الوزراء تغيير آلية التصويت في كل عملية انتخابية، لم تعجبها مخرجاتها، وذلك استناداً إلى المبدأ العام، أن أحكام المحكمة الدستورية نهائية لا يجوز الطعن بها.

رأيي المتواضع يميل إلى قبول جميع الطعون المقدمة على مرسوم "الصوت الواحد"، وذلك بعد أن قبلت المحكمة في يونيو الماضي الطعون في سلامة مرسوم الدعوة للانتخابات مجلس الأمة في فبراير 2012، وبناء عليه تم إبطاله، لأسباب إجرائية تتعلق في التشكيل الحكومي، وما صاحبه من إجراءات مرسوم حل مجلس الأمة 2009، ولا بد –طبيعياً- من المحكمة أن تستمر في قبول الطعون، والتأكيد على مبدأها وحقها العام في بسط يديها على المراسيم الأميرية.

شخصياً، أرى أن قانون الانتخاب وآلية التصويت هما نص واحد مترابط، وبناء عليه، فإن المحكمة الدستورية فصلت بشكل واضح، لا لبس فيه، أن تعديل قانون الانتخاب أمراً سياسيا، يصدر بقانون، وهو اختصاص لمجلس الأمة في الأحوال الطبيعية، ومن هذا الجانب أتوقع، وكلي آمال أن تنتصر المحكمة الدستورية لحكمها الأخير بشأن الدوائر الانتخابية.

لماذا أرجح الإبطال؟، هناك عوامل كثيرة، أجد نفسي مقتنعا تماماً في ما قدمه النائب السابق لرئيس مجلس الأمة عبدالله الرومي في طعونه، أهم ما جاء في طعنه –وهي نقاط مهمة ومثير للاهتمام- استناده للمادة 102 من الدستور، التي تنص على "لا يتولى رئيس مجلس الوزراء أي وزارة، ولا يطرح في مجلس الأمة موضوع الثقة به، ومع ذلك إذا رأى مجلس الأمة بالطريقة المنصوص عليها في المادة السبقة عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، رفع الأمر إلى رئيس الدولة، وللأمير في هذه الحالة أن يعفي رئيس مجلس الوزراء، ويعين وزارة جديدة، أو أن يحل مجلس الأمة.

 وفي حالة الحل، إذا قرر المجلس الجديد بذات الأغلبية عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء المذكور، اعتبر معتزلا منصبة من تاريخ قرار المجلس في هذا الشأن، وتشكل وزارة جديدة".

نص الفقرة الثانية شديد الأهمية، أنه في حالة توصل الأمر إلى استجواب رئيس مجلس الوزراء، وحصل المستجوبون على العدد الـ 25، رفع الأمر إلى رئيس الدولة، وفي حالة قرر حل المجلس، فإن من حق رئيس الدولة إعادة تعيين رئيس مجلس الوزراء، ولكن في حالة عودة "ذات الأغلبية"، وهنا أركز على لفظ "ذات الأغلبية" عدم التعاون معه، واستجوابه مرة أخرى، فإنه في حالة حصولهم على الرقم الـ 25، فإن الأمر يخرج من يد رئيس الدولة دستوريا، ويعتبر رئيس مجلس الوزراء معتزلا منصبة، وعلى رئيس الدولة سمو أمير البلاد تعيين رئيساً جديد لمجلس الوزراء وفق المادة 56 من الدستور.

وبالتالي، فإني أصور ما حصل في مجلس الوزراء عندما لجأ  إلى المراسيم الضرورة، كان يهدف إلى تغيير تركيبة مجلس الأمة، ويقطع الطريق أمام كل من يريد استجواب رئيس مجلس الوزراء، حتى لا يعزل سياسياً وفق الفقرة الثانية من المادة 102 من الدستور، ليأتي بمخرجات نيابية صديقة وأليفة مع الحكومة.

أما في ما يتعلق في المادة 71 من الدستور التي تنص على "إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة، او في فترة حله، ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز للأمير أن يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون، على أن لا تكون مخالفة للدستور أو للتقديرات المالية الواردة في قانون الميزانية، ويجب عرض هذه المراسيم خلال خمسة عشر يوما من تاريخ صدورهما، إذا كان المجلس قائما، وفي أول اجتماع له في حالة الحل أو انتهاء الفصل التشريعي، فإذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة إلى إصدار قرار بذلك، أما إذا عرضت ولم يقرها المجلس، زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة أو تسوية ما ترت من آثار بوجه آخر".

أجد أن جميع المراسيم التي أصدرها مجلس الوزراء غير دستورية، لكونها لا ينطبق عليها الضرورة، وإن كان بعض السياسيين يرون أن الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2012-2013 مهمة ويجب اعتمادها، فإن هذا الأمر مردود عليه، إن الانتخابات أقيمت في بداية ديسمبر 2012، ولدى المجلس الجديد نحو 45 يوماً قبل أن تنتهي المدة، فوزارة المالية حسب النصوص القانونية والدستورية، لديها فرصة حتى 29 يناير من كل عام لتقديم تقدير الميزانية العامة للدولة إلى مجلس الأمة، وكذلك المجلس لديه متسع كثير من الوقت لمناقشة وإقرار الميزانية، لاسيما أن الوقت يسعف لعقد أكثر من جلستين علنيتين، وجلستين تكميلية، أي ما يوازي أربع أيام، وهنا يظهر لي جلياً عدم دستورية مراسيم الضرورة الخاصة في الميزانية العامة للدولة.

أما باقي المراسيم الضرورة الأخرى، فبالله عليكم أين الضرورة في تعديل قوانين الإسكان، الشركات التجارية، تحويل مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية إلى شركة مساهمة، وغيرها من المراسيم ذات صيت شعبي؟، إن مجلس الوزراء استعمل المراسيم الضرورة في غير محلها، ولو كنت محل المحكمة لأبطلتها أيضاً، انتصاراً للمبدأ العام لمفهوم مرسوم الضرورة.

كما إني أجد أن هناك نقاط مهمة أيضا، وحجج أخرى للطعن بمرسوم الصوت الواحد، أرى أن الحكومة التي أصدرت المرسوم غير دستورية، وأرجع هذا الأمر إلى أن الوزراء وفق النصوص الدستورية يؤدون اليمين الدستورية مرتين الأولى وفق المادة 126 التي تنص على " قبل أن يتولى رئيس مجلس الوزراء والوزراء صلاحياتهم يؤدون أمام الأمير اليمين المنصوص عليها في المادة 91 من هذا الدستور".

ويعد القسم أمام سمو الأمير هو قسم تنفيذي، ليتولى إدارة شؤون الوزارة، ولكن هذا لا يعني قدرة الوزير على ممارسة أعماله داخل مجلس الأمة، ,وليس من حق مجلس الوزراء التقدم بمشاريع بقوانين إلى مجلس الأمة، إلا بعد أداء اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة وفق المادة 91 التي تنص على "قبل أن يتولى عضو مجلس الأمة أعماله في المجلس أو لجانه يؤدي أمام المجلس في جلسة علنية اليمين الآتية: أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن والأمير، وأن احترم الدستور وقوانين الدولة، وأذود عن حريات الشعب ومصالحه وأمواله وادؤي أعمالي بالأمانة والصدق".

وهنا أورد تساؤل جوهري، هل يحق لمجلس الوزراء أن يتقدم بطلب عدم إمكان التعاون مع مجلس الأمة، وبناء عليه حل المجلس، وهو ليس عضواً فيه؟، فهو لم يقسم أمامه ليفعل عضويته فيه بالأساس؟، أما الرد بالقول أن رئيس مجلس الأمة رفع رسالة إلى سمو الأمير يبدي فيه عدم قدرة المجلس على اكمال نصابه لأداء الحكومة اليمين الدستورية أمامه، فهي غير دستورية، الدستور بمواده الـ 183 لم تنص أبداً على مثل هذا الإجراء، وإن كانت نوايا رئيس المجلس أن يرفع الحرج عن عدم تمكنه من  دعوة مجلسه للانعقاد، إلا أن هذه الرسالة ودية من رئيس سلطة لسمو الأمير، ولا شيء أكثر من ذلك.

هناك طعون كثيرة وحجج مقنعة في عدم دستورية المرسوم الصوت الواحد، وأحدها أنه لا يحق لمجلس الوزراء أن يشكل كيان جديد يتمثل في اللجنة الوطنية العليا للانتخابات، ورصد ميزانية خاصة بها، دون اعتماد مجلس الأمة هذا الكيان واعتماد ميزانيته، وربما يكون هذا أحد الحجج القوية أيضا.

أتمنى أن كون قد وفقت في عرض وجهة نظري بشأن حكم المحكمة الدستورية المرتقب في 16 يونيو المقبل.