Thursday, July 18, 2019

صورة فوتوغرافية


 

******تنويه******

تمت الترجمة والدبلجة للنص الأصلي في معامل أنيس عبيد في القاهرة، جمهورية مصر العربية.

-1-

10 مارس 1917.

 

إلى ابني الوحيد فلذة كبدي،

ربما تكون هذه السطور هي الأخيرة لنا في هذه الدنيا، دخل الثوّار مدينتنا بيتروغراد -تحولت لاحقاً إلى سان بطرسبرغ- وعاثوا بها فساداً، تحولت المدينة الارستقراطية إلى ثكنة عسكرية، وانقلبت ساحاتها الواسعة إلى مقرٍ للآليات العسكرية المحترقة، وأرضا خصبة للتصفية السياسية الدموية بعد الحصار المفروض عليها.

كنّا أنا – ماشا (رَوحِيّة)- وأختاي آنستاسيا (صافيناز) وكاترينا (نيللي) نستمتع بالليالي برؤية النجوم اللامعة في سماء المدينة الصافية نتجول ناحية السكك الحديدية في وسط المدينة لأننا نعشق المرور على شارع "نيفسكي بروسبيكت"، وفي كل زيارة كنّا نتقمص أدوار شخصيات دوستويفسكي الذي استلهمها في طريقه من وإلى هذا الشارع.

 ولكن يبدوا أن لعنة روايته "الإخوة كارامازوف" حلّت بنا الليلة، ولسوء الحظ اندلعت الثورة فجأة، ودبّت الفوضى ونحن نقضي بعض الحاجيات من السوق للمدرسة الداخلية التي تديرها عائلتنا منذ أكثر من خمسة عقود، وقررنا الاختباء في مقهى الثقافة.

نحمد الرب إننا تمكنا بعد ساعات قليلة من العودة إلى مدرستنا بسلام عقب أن عشنا لحظات عصيبة وحرجة تطايرت معها طلقات الرصاص فوق رؤوسنا.

يا ابني العزيز،

لا أعلم إن كنت سأكون على قيد الحياة لأشهد ميلادك الثالث الذي سيصادف بعد غدٍ، ولكني أريدك أن تعلم بأني منذ ولادتك اعتدت على الاحتفاء بك، فأنا أول من حملك وضمك بحرارة ورقة متناهتين إلى صدري، ولا زال عقلي حتى لحظة كتابتي هذه الرسالة يبث شريط ذكريات ولادتك، وكلي أمل أن تتفهم أن هذه المرة الأولى التي قد أجبر على الغياب والابتعاد عنك قسرياً، وأن الموت لم يكن يوماً اختياري.

كريستوف،

عندما تقرأ هذه الرسالة وتتمعن في الصورة الفوتوغرافية المرفقة والتي أقف فيها الأولى يمينا إلى جانب أختاي، لا أريدك أن تخدعك ملامحي الحادة، وأن تعتقد إني صاحبة قلب قاسي لم تعرف الحنيّة يوماً، فإن خلف هذه الملامح قلبا مرهفاً يعشقك ويهيم فيك، كنت أحملك وأغني لك أعذب الأغاني حتى تهنأ بالنوم، وأمنيتي الوحيدة في هذه الدنيا أن أشاهدك تنمو إلى أن تغدو كاتباً كبيراً مثل أبيك الذي فارق الحياة ولم يكتب له رؤيتك.

 

 

-2-

..اما تبقى من ذاكرة الحُب.

آنستاسيا (صافيناز)

 

قرأت ذات يوم للأديب الفرنسي ميشيل دي مونتين بأن " ليس من شيء ثبت شيئا ما في الذاكرة مثل الرغبة في نسيانه"، وفي موضع آخر يقول " لقد كانت حياتي سلسلة من العثرات التي لم يحدث معظمها".

لا أعرف كيف أقدّم نفسي إليك، أعلم إننا التقينا صدفة في إحدى حفلات القصر الشتوي السنوية، وأن رقصتنا الوحيدة التي جمعتنا على أنغام ديميتري شوستاكوفيتش بمقطوعته الفالس الثانية لم تكن بمحض الصدفة، إنها الإرادة الإلهية التي أرادت أن تجمع قلبينا.

على أنغام وإيقاع الموسيقى الراقصة هي المرة الأولى التي لم أختار أو أحسب فيها خطواتي كافة، وإني سلّمت نفسي إليك لتقودني إلى حياة أجمل وأرحب، تجاهلت قلبي المثقل بالماضي وعقلي الباطن الذين يحاولان أن يحاصراني بالتجارب السابقة المخيبة للآمال، ولكن رغبتي في السعادة التي نبض بها قلبي منذ أن مسكت أنتَ يداي ودعوتني فيها إلى تلك الرقصة أنستني كل شيء، ماضيي وكل الآلام التي أعقبت خيبات الأحباء والأصدقاء، أردت فقط أن اتلذذ بما ستهمس أنتَ في أذني وأناملك تلمسني.

البداية معك.. لم تكن عصيبة مثل كل البدايات التي عهدتها، ولأول مرة لم يعد يهمني من أين نبدأ، هل أقدم قدمي اليمني أو اليسرى في بداية هذه الرقصة، وفي ذات الوقت وجدت نفسي لأول مرة أيضا غير مجبرة على التحفظ بالحديث، ولم اكتف بابتسامتي العريضة، وربما لا تصدقني عندما أقول لك إن لقاؤنا هذا لم يكن محض الصدفة، فمشاعري هي التي جذبتك إليَّ طواعية لتطلبني لهذه الرقصة.

أريد الاعتراف بأن هذا الفؤاد الذي يدق بداخلي لم يعد يحتمل أي خيبات للأمل جديدة، وكان يعيش في اللهيب منذ لقاؤنا ذاك، وإني متطلعة إلى لقاء ثان وثالث ورابع لا ينتهي أبدأ معه قطار العمر.

ما سبق هو إحساسي عن أول لقاء جمعني بك يا زوجي الغالي، وأتذكرك بحرقة اليوم وأنا أعيش الذكرى السادسة لوفاتك، حاولت أختاي إقناعي للذهاب إلى المصور الفوتوغرافي، لنعيش تجربة جديدة لم نختبرها من قبل، أن تلتقط لنا صورة فوتوغرافية، لحظة يتجمد معها الزمن، وقلبي يتعصر شوقاً إليك، ويتمنى أن يسرقك من الموت لبرهة أجمد فيها الزمن معك، أو أن يفتك بي الشوق أخيراً لنجتمع سوياً مرة أخرى.

أترك هذه الرسالة على قبرك لعلها تصل إليك مشاعري بشكل أو أخر.. وأعرف أن أجمل رسالة أو قصيدة تلك التي تخرج عفوية دون أن نترك فرصة لحسابات الصدفة أو الغفلة.

 

 

 

-3-

ربِّ أعلم يقيناً أنك مستمعٌ إلى مناجاتي كل ليلةٍ، إلا أنه لم يعد بمقدوري بعد الآن أن أسيطر على ما يدور في عقلي من أفكار، فأنا في حالة شك، صمتك يا ربِّ على ما يفعله الظالمون في مدينتي جراء هذه الثورة التي بات ظاهرها خيراً، إلا أن باطنها شراً لا محال، فبأي ذنب يقتل الناس في الشوارع وتشرد الأطفال بلا ذنب؟

أدعوك يا ربِّ وأنا متكئة على قدمي وأتوسل إليك بأن ترسل لي أية علامة أو إشارة تدل على وجودك فعليا بيننا في هذه الدنيا، وأنك كنت مستمعاً إليَّ منذ أن اهتديت إليك مراهقة في السادسة عشر من عمري، كي أطمئن، لأتمكن من خدمة دينك وكل محتاج أجبرته الظروف إلى اللجوء لكنيستنا التي تحولت إلى ملجأ يخدم الفقراء والمغلوبين على أمرهم.

علمتني حياتي وأنا أبنة الثلاثين ربيعاً ألا أعلق آمالي على أي شيء في هذه الدنيا، فالكل في نهاية الطريق سيخيّب آمالنا بطريقة أو بأخرى، لذلك وجهت بوصلة قلبي إلى خدمة الرب ثم مجتمعي، تعلمت ألا أترك فراغاً في حياتي أو أن أفتح المجال لعقلي أن يتدبر في شؤوني.

وهبت نفسي إليك يا ربِّ بعد أن ابتليتني بالوحدة، فكانت تجاربي الذاتية هي أساس محاولاتي في فهم أعراض هذا الابتلاء، حتى اعتدت على أن أوسد رأسي يومياً على وسادتي المزعجة كي ينشغل عقلي بألم هذه الوسادة بدلاً من قلبي الفارغ، والذي أصابته أعراض الشيخوخة والصدأ من الداخل.

لست معترضة على نتائج هذا الابتلاء لأني في خضمها وجدت الرضا في حياتي، نذرت نفسي إليك يا ربِّ ولخدمة الناس، ابتسامات الأطفال والمحتاجين ترسم البسمة على شفتي كل يوم، وأنا التي شاخ بها الزمن فجأة من دون أن أشعر بالسنين والأيام.

ظننت إنك يا ربِّ هديتني إلى هذا الدرب لأكون أنا مثالا حياً لشخص أفنى حياته الشخصية لقضيتك العادلة. إلا إني وجدت ضالتي بعد سنوات طويلة، في لحظات اليأس والقنوط التقيته، لم أكن متيقنة أنه من الممكن أن أكون إنسانة يُعجب بها أحداً على الإطلاق، كانت غيوم الحزن فوق رأسي لعقود من الزمان، إلا أن غريغوري الذي كان حريصا على توصيل المؤونة الشهرية لكنيستنا أعلن حبه لي الليلة الماضية.

كنت أخشى أن تمتد هذه الغيوم وأن يدفع بها الريح إليه، وأن ينفّره هذا الحزن مني، لكني يا ربِّ لم أعرف حينها كيف تكون النيات الطيبة آثار قوية وجميلة، كنت أخشى أن أفسد أنا هذه الفرحة على نفسي وأخسره ولكنه في المقابل أصلحني وأسعدني.

 

No comments:

Post a Comment