Wednesday, March 24, 2010

رسالة


إلى أقرب إنسانة من المثالية الأفلاطونية،

في دجى الليل و على ضوء قناديل القمر أخط رسالتي الخمسين، وهي أعداد المسطحات المائية التي تعرفت عليها خلال مسيرة سفري الطويلة و الموحشة طوال السنوات الماضية،.. لا أود الخوض في الافتراضيات التي يستثيرها عقلي في كل مرة أود أن أفرج عما أريد أن أبوح به إليك، بأن محاولاتي المستمرة بهذه الطريقة لن تجدي نفعا، ولكن أجزم بأن الفؤاد الضامي استطاع سماع دقات نبضك عن بعد قبل قليل.

لذا سأكون عفويا إن قلت لك إن الجوى يا آنستي عطل العقل بما فيه من علوم مكتسبة، حتى أصبحت نتيجة عملية رياضية بسيطة مثل جمع ١ + ١ باتت منطقية أن تساوي خمسة، وبهذا فإن العقل أصبح مناصرا للسفسطائيين بمقولتهم أن الفرد مقياس كل شيء، من دون أن أتيقن من حقيقة تلك الإدعاءات، وصرت أنتِ مقياسي و محوري.

عندما يأتي المساء، أكون في طريقي متوجها إلى المنزل، أتخذ الطريق ذاته الذي أسلكه يوميا، أقف في نفس الإشارات الضوئية، القريبة من الشريط الساحلي، ولكني توقفت الليلة بجانب " سنيار " من المراكب القديمة المصفوفة بمحاذاتها، وهي ذاتها التي تعشقين النظر و التمعن بها ظهر كل يوم من على نافذة مكتبك القديم، لا أعرف الأسباب التي قادتني إلى هنا، ربما فكرة الهروب من حياة المدينة الصاخبة، أو فؤادي الذي ورث تركة ثقيلة من الأفكار و الهموم أخيرا.


مجرد التواجد بين تلك المراكب تستهويني رغبات عديدة منها الإبحار بك على متن إحدى هذه المراكب، أن تستنح لي الفرصة أن أصطحبك على خطى طريق المغامرالعاشق يونس بحري*، نخرج سوية من خليجنا العربي نعبر مضيق هرمز، نصل بعدها إلى بحر العرب على أطراف اليمن السعيد، نبحر على نبضات قلب المحيط الهندي لنصل الهند إلى أن نهتدي إلى أندونيسيا وهي المحطة الأولى في خريطته، لنظهر بعدها من حيث لا يعلم الغير في برلين، تماما مثل يونس، عندما فاجئ الجميع بإجهار بصوته عبر أثير الإذاعة الألمانية "حي العرب ... هنا برلين"، بعد أن اختفى لسنوات طويلة مجهول المكان و الهوية معا.

نشهد يا آنستي طوال رحلتنا مستحدثات ميتافيزيقية لم نعهدها من قبل، في طريقنا إلى الهند تفقد الأرض فجأة جزء من توازنها توقف على إثرها حركتي المد و الجز البحريتين، ما أدت إلى خمول المسطحات المائية، والتي أصبحت ساكنة بلا ريحٌ أو رياحٌ تحرك شراع مركبنا، أثناء توقفنا نقضي أمسيتنا بمشاهدة النجوم المعلقة في كبد السماء ليظهر لنا من مشرقنا مذنب هالي لأول مرة، لينتهي به المطاف في مغربنا، نحتفظ ببعض من هذه الذكريات لتكون قصة سوف نقصها لأبنائنا، و بداخلنا نأمل أن يمد الإله عمرنا لنعيد ذكرى هذه الليلة مرة أخرى بعد مرور ٧٦ سنة على مرورها.

في الليلة التالية يقمع القمر الشمس، ليصبح المصدر الرئيسي للضوء، بعد أن كان عاكسا لأشعة الشمس لقرون طويلة، يصبح الليل أكثر نورا الذي وجد طريقه عيناك، عندها تزداد وتيرة نبضات القلب المتلهث برؤيتك، أما الشمس فهي ستنكسف غدا خجلا منك، فكيف تظهر و أنت شمسي و مصدر ضوئي ليلا؟

كل هذه الصور الخيالية و أكثر تراودني كلما مررت من هذا الطريق إلى المنزل يوميا، و كلما نظرت إلى البحر فإني أستذكر مغامرات الأدريسي، ابن بطوطة، يونس بحري، بينما أبقى منتظرا موعد مغامرتي، يسرح البصر بالبحر، متأملا أن يجد آثار لقارورة هنا أو هناك، بها رسالتك، لتبدأ معها مغامراتنا هذه.

أتعلمين يا آنستي بأني حلمت بك الليلة الماضية، أننا في برلين، فتحت الأرض خزائنها لجميع الخلق، قالت لي بأن كل ما على البشر الآن هو التفكير بالمراد ليصبح بعدها بثوان واقعا ملموسا أمامه، الثروة الفاحشة، القصور الفارهة و حتى الجواري و حور العين، حتى إنني أعتقدت بأني بلغت في الجنة، ولكني لم أطلب سوى أن تكونين هنا بجانبي، أقص عليك مغامراتي الحياتية، محاولاتي الشعرية الفاشلة، وحتى رسائلي القديمة التي كنت أنوي إرسالها إليك و ترددت في إرسالها، إلا أن الخزينة لم تتمكن من استجابة طلبي، وهو الوصول و الالتقاء بك، أو حتى الفرصة أن أبوح بما أكنه لك من مشاعر، عندها أدركت بأن شيطاني الذي صفدته قبيل منامي تمكن من الهروب فقط لإغواء عقلي المغلوب على أمره.


رغم كل المواجهات التي أواجهها في حياتي، إلا أنني مؤمنا في يوم بأن رسائلي المتكررة سوف تصل يوما إلى مينائك، وعندها أتمنى أن أكون على حق بأن أشهد لقاؤنا الأول، أن تبادليني المحبة، ليكون القلب المنقبض من أحوالي إلى المسرور، الطائر كالبلبل بين أغضان الأشجار يشدوا بأحلى الألحان.


إلى أن تجمعنا الأقدار يا آنستي...



حبي .. و مودتي،


قرمت القرمتي

الخليج العربي، مارس ٢٣ ، ٢٠١٠

الساعة الثانية فجرا


* يونس بحري هو أحد الرحالة العرب الذي قرر الانتقال إلى أندونيسيا لتعليم اللغة العربية و الدين الإسلامي الحنيف، بطلب من ملك السعودية عبدالعزيز آل سعود، رافق كل من المؤرخ الكويتي الأول عبدالعزيز الرشيد و الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، أصدر مع الرشيد أولى مجلة كويتية في المهجر تدعى الكويت و العراقي في ١٩٣٠.





6 comments:

  1. ان شاءالله توصل والنون علي
    .
    .
    .

    استمتعت بقراءة البوست كما عودتنا

    :)

    ReplyDelete
  2. قـرمـت

    إطلالةٌ أولى لإستشفاف النابض فيكم من رؤى وتجليات
    وحتماً لن تكون الأخيرة فالعبق هنا مغاير
    برُقِيّه واستثنائية الطرح للفكرة وأبعادها

    هنيئاً لنا بإضافةٍ تسمو بنا إلى آفاقٍ أرحب

    عسى الله يسمّح دربك ياخوي

    ReplyDelete
  3. رسالة ذات ثقافة ودراية بحرية..،
    وأسلوب كتابة رشيق وسهل الإستيعاب/

    ألفاظ تحمل أحاسيس ومشاعر جميلة وغير متكلفة ..،


    هذه الرسالة الخمسون
    !!
    أطالب بالرسائل السابقة
    /
    > أشجع على كتابة هكذا رسائل
    لعلها تصل يوماً//

    ReplyDelete
  4. مادري شقول

    اهو اشكره حب مثقفين ههههه

    الله يجمع كل من يحب على خير

    واذا هي رسايل غراميه خياليه

    بيعها على الشباب ترى لها سوق

    :")

    ReplyDelete
  5. كتابتك يبيلها قعده وزقاره !
    بوركت يا سيّدي ..!

    ReplyDelete
  6. chandal,
    الله كريم إن شاء الله

    ظامي سراب
    شرفتني زيارتك أتمنى أن تنال مواضيعي إعجابك

    :)

    حالمه
    الرسائل هي حالة خاصة أمضي و أمر بها، أكتبها و أصيغها بكل صدق و أمانة، أما عن الرسائل الباقية فإني احتفظ بها لسريتها، و كما تعلمين إن ليس كل ما يحدث ينشر و يقال
    أتمنى أن أكون عند حسن الظن في كتابتي لما أشعر به


    زووز
    إي والله صدقتي، كل ما في المدونة حقيقة وليس واقعا أو نسيج من الخيال بما فيها الرسالتين، الرسائل يا زووز تعبير عن الذات إلى من يستحقها، وكما تعلمين أن الأحساسيس لا تباع و تشترى و إنما تهدى و أنا أهديتها

    :-)
    الله كريم


    sa5er
    أتمنى أن توفق في قراءة الرسالة، و كما تعلم بأن المدونة كما هو الحال مع جميع المباني الحكومية في الكويت ممنوع التدخين فيها، أتمنى أن تنال المدونة إعجابك يا آيها السخر

    :-)

    ReplyDelete